المثقفون الشيعة والتيارات الشيعية

ميثم محمد الجشي

المثقفون بين الماضي والحاضر:


 تزخر القطيف بساحاتها الداخلية والخارجية بالكثير من الكتاب والمثقفين، ولسنا بحاجة للقول بأن القطيف تعتبر من أكثر مدن المملكة التي أنجبت كتاب وأدباء ومثقفين نابغين، ويشار إليهم بالبنان، وقد تكونت هذه الأجيال المثقفة منذ الأربعينات من القرن المنصرم، وتتابعت جيلا بعد جيل، وتغيرت الأفكار وتلونت بعدة ألوان، بحسب تجاه موازين القوى في المنطقة والعالم، وكل هذا الزخم المتراكم ساهم في ولادة جيل جديد من الكتاب والمثقفين والذين استندوا إلى هذا المخزون المتراكم من المادة و الأفكار الثقافية المتراكمة منذ الأربعينات إلى الآن. الأمر المهم في الجيل الحالي أو الجديد من الكتاب والمثقفين أنهم أكثر عددا عن ما كان في الماضي، وأكثر توازنا في علاقته بالدين والمذهب من الأجيال السابقة والمؤسِسة، أما الأمر الذي يبعث على الاستغراب بل على الاستنكار أن الكثير من أصحاب الأقلام قد تمت أدلجة أقلامهم بأيدلوجيات تيارية أو فئوية ضيقة، حتى أصاب بعضها سعار أيدلوجي، وتحول القلم من منتج للفكر والرقابة على الحركة الاجتماعية والسياسية بكل تياراتها إلى مطبل أو محام دفاع بامتياز عن تيار وكأنه تيار الفئة الناجية، متجاهلين أي خطأ أو هفوة قد تصدر من التيارات التي يدافعون عنها ويبشرون بها.


ما هو الدور المنشود من الكتاب و المثقفين؟


إذا كان الدور الحقيقي للصحافة في المجتمعات المتقدمة هي السلطة الرابعة، بعد السلطات الثلاث التنفيذية والقضائية والتشريعية، وهي أي الصحافة هي السلطة التي تراقب الجميع، وتبرز للمجتمع الأخطاء التي يقع بها أي من هذه الأجهزة، فإذا كان هذا هو الدور المنشود والمتطلع له للصحافة في المجتمعات الحرة أو الديمقراطية، فإننا لا نعيش هذه الحرية أو التقدم أو الديمقراطية، بل نعيش تحت قيود صارمة، تمنعنا كشيعة حتى من البروز الإعلامي في أوطاننا، وإذا آمنا بأن الحاجة أم الاختراع، فقد عَّوض المجتمع الشيعي هذا التغييب عن الساحة الإعلامية في وطنه بتطويع الوسائل المتاحة لتشكيل ساحة إعلامية ولو كانت محلية لمناقشة همومه وتطلعاته، و إدارة الأزمات التي يتعرض لها المجتمع ككل، فبرزت تلك المواقع والشبكات الإخبارية التي تهتم وتبرز القضايا المفصلة التي يعيشها المجتمع الشيعي، وقد تكاثرت وتطورت هذه المواقع، وأصبحت مصدرا للخبر و يشار إليها بالبنان، وأصبح أفراد المجتمع يتابعون بشغف ما تطرحه هذه المواقع، وأصبحت تأخذ حيزا مهما في حياتنا كمجتمع مضطهد. نعم، لقد استقطبت هذه المواقع والشبكات أقلام كثيرة ومميزة، وبرز لنا جيل جديد من المثقفين الشباب الذي أبرز مشاكل البيت الشيعي ووضعها أمام نظر القارئ المهتم أو المتابع، وبرز بعضهم حتى ككتاب في صحف خارج وطنهم لانعدام الفرصة والحرية داخل صحفهم الوطنية. وبالنظر إلى تعدد الرؤى ووجهات النظر بين القيادات الاجتماعية من رجال دين و ناشطين اجتماعيين، فمن الطبيعي أن ينقسم المثقفين بين هذه التيارات كتأييد فكري لفكرة ما أو توجه، فقد يعارض الكاتب الحر توجها ما في إحدى منعطفاته أو تصرفاته، وقد يؤيده في منعطفات وتصرفات أخرى، وهذا هو حال كل الساحات الثقافية والسياسية في العالم ككل. فالدور الذي يعوله المجتمع على الكتاب والمثقفين هو الرقابة العامة على التحركات والتوجهات في ساحة البيت الشيعي الداخلية و تفاعلها مع بيئتها الداخلية  والخارجية، فتقويم وتصويب هذه التوجهات هو الدور الأساسي المنشود من كل صاحب قلم وفكر، فهم السلطة الرابعة الحقيقية داخل البيت الشيعي، ومهما حاول البعض الخروج من شيعيته أو انتمائه المناطقي حتى، فلن ينجح، لأننا للأسف ولدنا ونحن نرى التمييز الطائفي والمناطقي في البلد، والنظرة الوحيدة لنا هي أننا شيعة يشككون في كل كلمة نقولها، فلا داعي لأي منا من الخروج من ثوبه الطبيعي فقط للتدليل على أنه وطني أو غير طائفي، فهناك طرق أنجع للتدليل على هذا يفهمها العقلاء، ولا داعي لاستجداء الاعتراف بنا كمواطنين بطرق قد يتبعها بعض الكتاب أو الناشطين وهي لم ولن تجدي. 

أين موقعية الكتاب اليوم؟


إن الإيمان بحرية الفكر والرأي، وتقويم المشاكل المطروحة بعين الحياد قدر المستطاع هي أوجب ما يتحتم على كل صاحب قلم الالتزام  به، وبهذا يترجم القول بولاية الأمة على نفسها، وبهذا أيضا تصقل النظرة العامة من قبل المجتمع على تحركات تياراته وناشطيه. أما أن يتحول الكاتب إلى (بصَّام) و داعية لكل ما يصدر عن هذا التيار أو ذاك، أو أن يكون الكاتب مفتونا بشخصية دينية أو اجتماعية فيتحول إلى مطبل لها، عندها لن يكون كاتبا حرا نزيها، بل مجرد بائع أفكار مؤدلج لافرق بينه وبين المطبلين للحكومات العربية في صحافتها الرسمية. فمن الاستحالة، وهذا ما أثبته التاريخ، أن يتوافق ويتطابق اثنان من البشر في كل شيء، وخصوصا إذا كان الأمر يتعلق بالشأن العام السياسي أو الاجتماعي، وليس هناك أي تيار سواء شيعي أو سني أو مسيحي أو يهودي، أو حتى تيار فكري يصيب في كل أمر يقوم به أو موقف يتبناه، ومن يقول ذلك فهو (كاذب) ومدلس ومأجور، وقد رأينا وقرأنا مصير الشعوب والجماعات التي أوكلت أمرها لحزب أو لشخص وآمنت بجميع أفكاره، ونحن هنا نتكلم عن البشر العاديين، وليس عن الأنبياء أو الرسل، هذا حتى لا يخرج علينا أحد ليقول أننا نعمم هذا على جميع خلق الله. 


في بداية ظهور الشبكات والمواقع الإخبارية، كان المثقفون والكتاب دائما ما يصدرون بيانات أو مطالب عامة، إما مطالبة للدولة أو لجهات خارجية، كبيان إدانة العريفي، أو بيان مطالبة قناة الجزيرة بالاعتذار عن الإساءة للمرجع السيد السيستاني. وكان هذا هو الدور المأمول من أصحاب الفكر والثقافة بأن يدافعون عن حقوقهم كشيعة وكمواطنين، فللقم مسؤولية عظيمة، فحامل القلم كحامل السلاح، لا بل هو أقوى وأمضى من السلاح في حجم تأثيره على البشر. وبالتدريج، وتحت وطأة بعض الأحداث الاجتماعية والسياسية  ومنها تكريم القضاة أو استقبال البريك انقسم الكتاب والمثقفين في آرائهم، وهذا أمر طبيعي، فمنهم من أيد استقبال البريك مثلا، ومنهم من عارض، ولا تثليب في هذا، وقد أبرز هذا الخلاف الاختلاف والتباين بين تيارين رئيسين في القطيف، تيار يؤمن بالتواصل مع المتشدد والمعتدل، وتيار آخر يرى أن التواصل والانفتاح وسيلة وليس غاية، ويجب أن يرشَّد. ولا تثليب أيضاً في هذا، فالاختلاف وارد بين التيارات الفكرية المختلفة، فأين موضع الخلل إذاً؟ الخلل يكمن يا سادة بأن يتحول الكتاب والمفكرون إلى حطب تستخدمه التيارات المختلفة فيما بينها لضرب بعضها البعض، فبدلا من أن يكون كتابنا ومثقفينا هم عين الأمة على نفسها، وعنصر وحدة، يتحول كل كاتب لسهم يرسله كل تيار من قوسه تجاه الآخر. إن البيان الذي أصدره عدد من المثقفين والكتاب قبل فترة لنصرة تيار على آخر ما هو إلا ضرب للمجتمع بإسفين يجذر انقسامه، فبدلا من أن نكون الجهة التي يجتمع عليها الناس، ومرآة تعكس ما يريده مجتمعنا ككل، ونكون الميزان الذي يزن كل ما هو مطروح، نتحول إلى أدوات لدى هذا التيار أو ذاك أو جمرا يشعله هذا أو ذاك متى أراد. إن مسؤولية القلم تحتم علينا التركيز على مشاكلنا الوطنية كفئة مضطهدة، لا أن نكون كالعصا أو السلاسل التي يريد البعض تكبيلنا بها.

أيننا من كل هذا؟


إن الأولى من مناصرة جهة على أخرى ببيان أو تصريح، هو المشاكل و الاضطهاد الذي يمارس علينا طائفيا، فأين مصدري البيان المؤيد لنهج التواصل مع الجميع – كما أشار البيان – من اعتقال الشيخ العمري في المدينة المنورة، و أينهم من مصليات الخبر، و أينهم من السجناء المنسيين، و أينهم من التمييز الوظيفي والتعليمي، فهل اختفى كل هذا ولم يعد لدينا مشكلة إلا أي من التيارات نؤيد و أي منها نعارض؟ فا الأولى بكم أن تتحسسوا مواضع الألم والضيم في مجتمعكم، فهل أصدرتم بيانا تدينون به اعتقال الشيخ العمري أو أي مما ذكرت أعلاه، أو أي مشكلة تقع على الطائفة ككل تتحسسونها أنتم؟، فلتكونوا أنتم مصدر وحدة هذا المجتمع ولتكونوا بلسمه ودوائه، بدلا من أن تكونوا عنصرا مساعدا في تفكك هذا المجتمع وتشرذمه، و لتكن زياراتكم لأقطاب مجتمعكم زيارات لتقريب وجهات النظر، بدلا أن تكون زيارات استعراضية أو زيارات رفع عتب. وأين من يهاجمون دعاة الانفتاح حتى مع المتشدد من الجوانب الأخرى من أفكار القائلين بالانفتاح. إن فكرة مع أو ضد هي فكرة عقيمة، وغير موصلة لأي نتيجة إيجابية.

كلمة أخيرة

إن للقلم مسؤولية وقدسية، وقد أقسم الله به سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، فلابد ممن يمسك به أن يتصف بالتقوى والإنصاف أولا، وألا يتحول هذا القلم إلى مزبلة تفوح منها رائحة السب والشتم والتحقير لأي اتجاه أو تيار أو شخصية داخل المجتمع، وبالأحرى أن يكشف الكاتب عن هويته الحقيقية، فلا أعتقد أن انتقاد أي تيار اجتماعي يمثل خطرا على أي كاتب، إلا إذا كان القصد من الكتابة هو إثارة الفتن الداخلية بين أطياف المجتمع الواحد. كما يجب على الجهات المسئولة عن المواقع الإخبارية تحري الدقة والمصداقية فيما تطرحه على قرائها، فلقد أصبحنا نقرأ الخبر عن نفس الحدث في أكثر من موقع، ونجدهم مختلفين في سرد الخبر حد التضاد في بعض الأحيان.