الكلمة الطيبة: بين منطق القوة وقوة المنطق

السيد إبراهيم الزاكي

تمر الحياة البشرية في مرحلة دقيقة من التاريخ الإنساني، بفعل التطور المذهل والتقدم المطرد والمتسارع في مجال تقنيات وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات وسرعة التواصل، والتي أدت إلى اكتساح وزعزعة دور وسائل الاتصال والمعرفة التقليدية والمتعارف عليها، حيث اختزلت اليوم المسافات، وأصبحت الأرض على سعتها وكبرها، كبر قرية صغيرة، يعرف أفرادها بعضهم بعضا. ومع ذلك، فما زال الإنسان عرضه للضغوط والتحديات التي تواجهه على كافة المستويات، خصوصا على المستوى الإنساني/ الثقافي، حيث ظلت أزمة التواصل والحوار مع الذات ومع الآخر والمختلف، من أبرز الإشكاليات الحقيقية التي يعانيها ويعيشها هذا الإنسان، ضمن دوائر هوياته المتعددة والمختلفة.

وأمام هذا المأزق/ التحدي الذي تعيشه النفس البشرية، ظلت الكلمة الطيبة تعاني من حالة اغتراب حقيقية، نتيجة رسوخ حالة الانغلاق والتقوقع والانكفاء على الذات، والشعور بالاكتفاء الذاتي، بسبب ضعف ثقافة الحوار وآداب التخاطب، التي تعزز روح الانفتاح والمحاكاة مع النسيج الإنساني المختلف، والانسجام مع ما يقتضيه قانون التنوع والتعدد البشري والإنساني، حيث للكلمة الطيبة دورها المبدع في ترسيخ علاقات الود الإنساني، والتعاطف بين بني البشر، بعيداً عن كل أشكال لغة الفظاظة والغلاظة وعنف الكلمة، وبعيداً عن كل الأشكال النمطية والرتيبة والبليدة في الحوار والتخاطب.

إن مشكلة/ أزمة التواصل بين بني البشر ليست إشكالية طارئة في رحلة الإنسان في هذه الحياة، فلقد (احتلت قضية الصراع الديني مكان الصدارة في تاريخ صراع الجنس البشري، إذ لم يخل عصر من العصور من وجود خصومة بين الشعوب على أساس ديني، تصل في كثير من الأحيان إلى حد الصراع المسلح بينها، كذالك لا يلتقي اثنان من أتباع دينين مختلفين إلا وتقوم بينهما مناقشات ومحاورات حول مبادئ وتعاليم عقيدتيهما، تارة تكون بألفاظ مهذبه، وأخرى تصل إلى حد التراشق بالألفاظ الخارجة عن موضوع البحث، أو بإسلوب يتسم بالعنف والبعد عن الطريق الموصلة إلى الحقيقة). [1] 

إننا اليوم مع الأسف الشديد، دائما ما نجد أن الصيغ الحوارية التي تحكمها مفردات التخاطب الأخلاقي، التي تتضمن معاني الاحترام والحب والتكريم، والتي تخترق القلوب وتعمق الحقيقة وتضيق الهوة والخلاف بين الناس، قد أصبحت غريبة ونادرة على مستوى التخاطب والحوار والتواصل بين بني البشر، بسبب الحواجز العصبية والنفسية التي يضعها الناس أمام بعضهم البعض.

فكم هم هؤلاء الذين إذا تكلموا وتحدثوا أثاروا بكلامهم المشاكل والضغائن والفتن، لأنهم لا يحسنون لغة الحديث، ولا استعمال الكلمات والمفردات والجمل والتعابير اللائقة والمناسبة. فهم دائما ما يعتمدون في تخاطبهم مع الآخرين، لغة فجه فوضوية ومستفزه ومهينه وجارحة وعنيفة، معتقدين أنهم يحسنون لغة الحديث وصُنعه الّلغة، لكنهم ويا للأسف الشديد، لا يعون أو يدركون أن لغتهم هذه تفتعل التوتر، وتؤجج المشاعر، وتثير السخط، وتشيع الفتنة، وتفشي روح الفرقة والتنازع، وتضعف الصلة مع الآخر، وتؤدي إلى الخصام والقطيعة معه.

إن مفردة العنف لا تعني فقط ما نشاهده من عنف مادي منتشر في هذا العالم وبين الناس، وإنما هو أيضا يشمل العنف المعنوي الذي يتمثل من ضمن ما يتمثل في العنف اللساني، ويتجلى من خلال استخدام واستعمال الألفاظ التي تنطوي على السب والقذف والإهانة، وتصل إلى حد اغتيال شخصيات الآخرين، وضرب معنوياتهم بكل الطرق والوسائل الدعائية واللسانية والكتابية، واستباحة الأعراض والكرامات، وبصورة غير أخلاقية، وبعيدة عن لغة الحكمة والمنطق التي تهدف إلى التقريب بين الناس، وتضييق الهوة والخلاف والفجوة بينها.

إذا كان العنف المادي عمل منبوذ وسلوك مرذول، فإن العنف اللغوي والكلامي هو أيضا كذلك، (فعنف اللسان مكروه في اللغة، وقد نصت المعاجم على أن "العنف ضد الرفق، وعَنف به وعليه يَعنُف عُنفا وعناَفة... وهو عنيف إذا لم يكن رفيقاً في أمره، واعتنف الأمر أخذه بعنف، وفي الحديث: إن الله تعالى يعطي على الرفق مالا يعطي على العنف، والعنف بالضم؛ الشدة والمشقة، وكلُ ما في الرفق من الخير ففي العنف من الشرّ مثله" لسان العرب مادة (عنف). ويرى أحد المختصين أنّ العنف اللساني "لا قيمة له، بل هو صفة منبوذة، إذ هي ليست صفة قائمة في حدّ ذاتها، ولكنها ردّ فعل غير متوازن على قول أو فعل أو ظاهرة، تجعل المتكلم يفقد السيطرة على اللغة، فيلجأ إلى جملة من الانحرافات... ويتجلى العنف اللساني في الكلام المباشر... كالإتيان بالكلمات المنبوذة في اللغة إلى الصدارة من فعل الكلام" وما يصحب ذلك من ملامح تشمل الوجه العبوس أو المكهرب أو المتكبر أو المتجبر). [2] 

إن الكلمات والجمل التي نستعملها ونستخدمها في الكلام والحديث والتخاطب، لها مفاعيلها الايجابية أو السلبية مع من نتحدث معه، فنحن نشعر بالارتياح والانشراح والرضا، عندما نسمع كلمة طيبة تقال، كما أننا نشعر بالضيق والاشمئزاز والنفور والتقزز، عندما نسمع كلمات غير مؤدبة ومؤدية، كالشتائم والسباب، أو تلك الكلمات التي تنطوي على تحقير وتجريح واستخفاف، أو تحمل كلام بذيء وألفاظ نابية تخدش الحياء والعفة والكرامة.

لذلك من الضروري أن نتحلى بالصبر في مثل تلك المواقف المستفزة، وان نتحلى أيضا بالحكمة والوعي وبعد النظر أثناء التخاطب والحوار مع الآخرين، من اجل تجنب منطق القوة، وعنف اللسان، واستعمال الكلمات الجارحة، وان نبادر إلى قول الكلام الحسن، والكلمة الطيبة، التي أصلها ثابت وفرعها في السماء. أما تلك الكلمة النزقة والمتهورة والنابية، فليس لها اصل ثابت، ولن تلبث أو تمكث في الأرض، بل سوف تتلاشى وتتبدد، لأن ليس لها جذور تعتمد وتتثبت بها.

[1]  ـ أدب الحوار في الإسلام / محمد شامه – جريدة الخليج الإماراتية.

[2]  - عنف لساني؛ يؤصل لمفاهيم العداوة ويبث روح الفرقة!/ حسناء عبد العزيز القنيعير – جريدة الرياض.