سياسة اختطاف الشارع

السيد ماجد السادة

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

تعمد بعض الأنظمة السياسية في مواجهتها لغليان الشارع وتياراته السياسية ذات الأجندة المزعجة لها والتي تخشى منها تقويض كيانها تعمد تلك الأنظمة إلى اعتماد سياسة اختطاف الشارع.

     ونعني بسياسة اختطاف الشارع هو العمل على تغيير مسار الرأي العام والغضب والاحتجاج الجماهيريين من مساراتها الخطرة على النظام إلى مسارات لا تشكل خطورة عليه أو أنها اقل تهديدا.

     وعادة ما تعمد تلك الأنظمة إلى هكذا سياسة عندما يستفحل الغضب الجماهيري إلى درجة لا تقدر فيها على قمع ذلك الغليان لدى الرأي العام وكبته، وهذا النوع من سياسة الاختطاف للشارع هي من الممارسات السياسية القديمة الجديدة للأنظمة.

     فإذا ما كان هناك تيار يتبنى خيار الكفاح المسلح مثلا في مواجهة النظام فان النظام ولأجل اختطاف الشارع وإقصاء تأثير هذا التيار عليه يسعى إلى تشجيع التيارات التي تتبنى خيارات سلمية ، وإذا ما كانت هناك تيارات سلمية تدعو إلى تغيير النظام  فان النظام هنا سيسعى إلى تشجيع أو حتى صناعة تيارات اقل خطورة وتهديدا عليه تتبنى إيديولوجية تعترف بشرعية النظام القائم وهكذا دواليك ، بحيث ومن خلال هذه السياسة تحرف مسار الرأي العام من تبنى خيار المعارضة والمواجهة إلى خيار اقل خطورة وإزعاجا للنظام  كل ذلك سعيا من النظام لصناعة ساحة تفريغ للغضب المعتمل والمختمر في نفوس المجتمع في اتجاهات لا تشكل خطرا عليه أو تهدد كيانه ، خاصة إذا ما عرفنا بان المجتمعات إذا لم تجد متنفسا لاعتمالات الغضب فيها على ممارسات النظام تجاهه واتجاه حقوقه، فان تلك الاعتمالات تتحول إلى مسارات تعبيرية أكثر عنفا في مواجهة النظام وسياساته ، من هنا تسعى تلك الأنظمة إلى انتهاج سياسات تختطف بها الرأي العام فتعمل على إعطائه فرصة للتنفيس عن بعض اعتمالاته وغضبه كأن تفتح للجماهير مساحة لاعتراضاتها  وانتقاداتها في صفحات الإعلام على ممارسات بعض الدوائر الحكومية مثلا ، شريطة أن لا تمس تلك الانتقادات هيبة النظام وخاصة الذوات المقدسة فيه  .

فحينما يجد النظام نفسه غير قادر على القضاء على تيار الاحتجاج والغضب لدى الشارع يشعر حينها بالحاجة إلى سياسة تخفف من أضرار هذا الغضب الجماهيري عليه ،  فيعمد عندها إلى سياسة اختطاف الشارع ، إما بصناعة تيار آخر أو بتشجيع التيارات الأقل خطورة وتهديدا له .

وفي سياق هذه السياسة تجد النظام السياسي وتشجيعا منه لتياره المختار يفسح المجال لهذا التيار ورموزه لاكتساح الشارع العام والتأثير عليه ، ليصبح فيما بعد عنوانا لذلك المجتمع بدلا من عناوين أخرى لا تتماشى ومصالح النظام وسياسته ، ففي الوقت الذي تضيق الخناق على التيارات الأخرى تسهل لهذا التيار القيام بأنشطته وبناء مؤسساته ، بل وتسهم في تلميعه إعلاميا بوسائل عده كإعطائه مساحة للظهور في الإعلام  فتجد رموزه ينتشرون في الصحافة مثلا بأعمدة خاصة لهم ، والاحتفاء بهم إعلاميا في الصحف والقنوات في أي مناسبة لإبرازهم عبر المقابلات والحوارات باعتبارهم وجوه المجتمع الثقافية والاجتماعية , وإعطائهم حرية الحركة والمشاركة في الملتقيات المحلية بل والدولية ، كل ذلك رغبة من النظام في اختطاف الشارع وإبراز هذا التيار ورموزه كعناوين للمجتمع ، حتى لو كان المجتمع لا يراهم يعبرون عن ضميره وآماله ، وفي هذا السياق قد يقدم النظام بعض الاستحقاقات على صورة منجزات إغراءا للمجتمع في انتخاب هذا التيار دون غيره  ، والى غير ذلك من وسائل وفنون التلميع والترميز والإبراز .

     ولكن يبقى نجاح النظام وفشله في اختطاف الشارع العام وتغيير مسار الرأي العام رهن بكفاءة وقوة أو ضعف التيارات الأخرى المناهضة للنظام في التأثير على الرأي العام واستيعاب المجتمع ضمن سلسلة برامج وأنشطة تخدم إستراتيجيتها ، فبمقدار ما تستطيع التيارات الأخرى الانفلات من خناق تلك الأنظمة نحو التواصل الفاعل والمؤثر مع قاعدتها بمقدار ما ينسحب البساط من تحت أقدام تيارات السلطة سواء التي صنعتها أو التي دعمت تسيّدها للشارع .

هذا النحو من السياسات لاختطاف الشارع ليس بالجديد على أرباب السياسة ففي العصر الأول من الإسلام عمدوا إلى إقصاء أهل البيت عليهم السلام عبر طرح وتغليب نظرية الصحابة على الشارع العام كبديل عن مركزية وزعامة أهل البيت عليهم السلام ، وفي فترات تاريخية أخرى عمدوا ولإقصاء  مدرسة ومذهب أهل البيت عليهم السلام إلى سياسة ترسيم المذاهب بأن اثبتوا للمسلمين أربعة مذاهب فقط وعمموها رسميا على الأمة وأقصوا وتجاهلوا مذهب أهل البيت عليهم السلام ، هذا عن ممارسة سياسة اختطاف الشارع وإقصاء التيارات المناقضة لمصالح النظام في العصر القديم .

    أما في عصرنا الحاضر  فقد اعتمدتها العديد من الأنظمة السياسة ، فعلى سبيل المثال استطاعت سوريا أن تواجه تيار الإخوان المسلمين عبر تشجيع تيارات ورموز دينية أخرى تمكنت بها من اختطاف التيار الإسلامي آنذاك وتوجيه بوصلة حراكه السياسي نحو مآلات أكثر عافية للنظام .

     وفي مصر استثمر السادات الإخوان المسلمين في مواجهة التيارات اليسارية والقومية ، فمكّن رموز الإخوان وسهل لمؤسساته بالانتشار والحركة والنشاط ، ليختطف بذلك الشارع العام من أحضان التيارات الأخرى حفاظا على نظامه وليس تبنيا منه للأطروحة الإسلامية كما توهم البعض آنذاك .

ولا زالت المخاضات السياسة للمجتمعات تشهد هذا النوع من سياسات اختطاف الشارع والتحكم في صناعة عناوينه ورموزه التي ليست بالضرورة عناوين حقيقية للمجتمع تحكي ضميره وآماله وتطلعاته  .