الإيثار في التبعل.. السيدة بريجيت أخطأت
قال ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9].
وقال الإمام علي : ”لا تكمل المكارم إلا بالعفاف والإيثار“.
لكي نفهم مفهومَي التبعل والإيثار بشكل صحيح، لا بد أولاً من توضيحهما وبيان معانيهما، حتى تصل الرسالة بوضوح، ويكون لها أثر فكري ونفسي أعمق، وتجنبًا لحدوث أي تعارض بين المفهومين.
الإيثار هو تقديم النفس أو الوقت أو المال في سبيل غاية سامية، تتجاوز حدود المصلحة الشخصية، طلبًا للأجر والثواب من الله تعالى. ويُعدّ هذا السلوك من أسمى صور الإنسانية، لما فيه من تضحية وعطاء ونبل أخلاقي.
وقد جاء التعبير عن هذا الخُلق الرفيع في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾، أي يُقدّمون حاجة غيرهم على أنفسهم، رغم ما هم فيه من خصاصة، وهي شدة الحاجة. وهذا يدل على عمق المعنى وروعة السلوك الذي يعكس أعلى درجات الكرم والتضحية.
ولا يقتصر الإيثار على الأقارب أو من تربطنا بهم صلة، بل يشمل جميع الناس، مما يجعله خلقًا إنسانيًّا عامًا، يرتقي بصاحبه فوق حدود العلاقات والمصالح. وهو في جوهره نقيض الأنانية، التي تُقدّم المصلحة الذاتية دون اعتبار لحاجات الآخرين أو مشاعرهم.
أما مفهوم التبعّل في اللغة العربية يدل على حسن المعاشرة بين الزوجين، أي الأسلوب الذي يتعامل به كل من الزوج والزوجة مع الآخر في إطار الحياة الزوجية. ويتضمّن هذا المفهوم مظاهر الرعاية والمودة والانسجام، التي تُعدّ من ركائز العلاقة الزوجية الناجحة.
وعندما تُوصف المرأة بأنها ”حسنة التبعّل“، فإن ذلك يعني أنها تتصف بالطاعة لزوجها، وتمنحه الحب والإخلاص والوفاء الكامل، وتحرص على راحته ورضاه، مما يعكس فهمًا عميقًا لدورها وشراكتها في الحياة الزوجية.
الإيثار الحقيقي يتجلى في أبهى صوره عند الزوجة الصالحة، التي تُحسن التبعّل لزوجها في حضوره وغيابه على السواء، فهي لا تُجيد المعاشرة الطيبة حين يكون بين يديها فحسب، بل تظل وفية له، مخلصة في غيابه، حافظة لبيته وكرامته، أينما كانت، فهو في نظرها الأول بلا منازع، لا يسبقه أحد في المنزلة، ولا يُضاهيه أحد في التقدير، حتى على نفسها وأولادها، فضلًا عن أي شخص آخر مهما بلغت صلته بها.
وهذا السلوك النبيل هو ما أوصى به نبي الإسلام، لما فيه من بناء أسرة متماسكة، قائمة على المحبة والتفاهم، فمثل هذا التبعّل الراقي يصنع من الرجل زوجًا عاشقًا، ودودًا، محبًا، كريمًا، يُضحي بسعادة، ويُعطي بلا حدود، لأنه يستند إلى زوجة عظيمة، عظّمت مكانته، وصانته، واحتوته بمودتها وحكمتها، تكون له الملاذ والسند، وتخفف عنه أثقال الحياة، وتُضمّد جراحاته النفسية والجسدية، فتغدو الطبيبة الأولى لقلبه وروحه، والحائط القوي الذي يتكئ عليه في معاركه اليومية، واليد التي تمسح التعب، والقلب الذي يبعث الطمأنينة في أعماقه.
وإذا وُجدت زوجة تتباهى بإثقال كاهل زوجها بالمتاعب، وتمارس عليه وعلى الأسرة أساليب الهيمنة والتسلط، وتُظهر ذلك أمام الآخرين بدافع من الغرور، فإنّ هذا السلوك لا يعكس قوة شخصية كما تظن، بل يكشف عن إخفاق عميق في فهم أسس الحياة الزوجية السليمة، وعجز عن بناء أسرة مستقرة وسعيدة.
مثل هذا التصرف إنما يدل على خلل في النضج الفكري والثقافي والأخلاقي، ويُعبّر عن فراغ داخلي تحاول أن تُخفيه بمظاهر التسلّط والاستعراض. وغالبًا ما تكون هذه الشخصية تعاني من ضعف في الثقة بالنفس، مما يجعلها متذبذبة في سلوكها، قلقة في قراراتها، وغير قادرة على تحقيق الانسجام الحقيقي في حياتها الزوجية.
ومن أجل توضيح الفكرة بشكل دقيق، يمكننا التوقف عند تعريف الشخصية المتذبذبة كما ورد في علم الاجتماع. فهذه الشخصية تُعرف بعدم الاستقرار في المزاج والسلوك، حيث تتغير ردود أفعالها بشكل سريع وغير متوقع، وغالبًا ما تكون علاقاتها الاجتماعية غير متوازنة، تشوبها التوترات والانفعالات المتكررة.
ويُلاحظ على هذه الشخصية غياب الثبات في الهوية والانتماءات، إلى جانب صعوبة واضحة في ضبط العواطف والسيطرة على التصرفات، ما يجعل من التفاعل معها تحدّيًا، وخصوصًا في الحياة الزوجية، حيث تُصبح هذه الاضطرابات مصدرًا دائمًا للمشكلات وسوء التفاهم. فبدلًا من أن تكون العلاقة الزوجية سكنًا واستقرارًا، تتحول إلى ساحة من التقلّب والانفعالات المتضاربة، وهو ما يعوق بناء أسرة متماسكة وسعيدة.
فوجئ الرأي العام قبل أيام بخبر أثار جدلًا واسعًا، حين تداولت وسائل الإعلام مقطعًا مصورًا يظهر فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عند وصوله إلى مطار فيتنام في زيارة رسمية، حيث شوهد وهو يتلقى صفعة مفاجئة على وجهه من زوجته بريجيت، قبل نزوله من سلم الطائرة. هذا المشهد الغريب أحدث صدمة لدى المتابعين، وقسّم الآراء بين مستنكر ومبرر.
فقد رأى فريق من المتابعين أن هذا التصرف لا يليق بمكانة السيدة الأولى، واعتبروه تجاوزًا أخلاقيًا يعكس سلوكًا متسلطًا وغير حضاري، فيه تقليل من احترام الزوج ومكانته، خاصة حين يحدث أمام عدسات الإعلام وعلى مرأى من الجميع.
في المقابل، قلل آخرون من أهمية الحدث، ورأوا أنه لا يستحق كل هذا التهويل الإعلامي، مرجحين أن ما حدث كان مجرد رد فعل عفوي، ربما بدافع المزاح بين زوجين تربطهما علاقة طويلة ومعروفة.
وهكذا، انقسمت التفسيرات بين من رأى في الحادثة تصرفًا مشينًا، ومن اعتبرها أمرًا عاديًا لا يتعدى لحظة عابرة في سياق العلاقة الزوجية، لكن المشهد بلا شك فتح بابًا واسعًا للنقاش حول حدود السلوك المقبول من الشخصيات العامة، خاصة في الفضاء الإعلامي المفتوح.
القراءة الواقعية للحدث الذي جرى بين الرئيس الفرنسي وزوجته تشير إلى أنه موقف غير طبيعي، حيث نشأ بعده توتر واضح بين الطرفين. وبالنظر إلى تفاصيل المشهد، سواء من قِبل المختصين أو غيرهم، يظهر بوضوح الانفعال والتوتر الشديد على وجه الرئيس ماكرون، كما كانت زوجته السيدة بريجيت في حالة توتر شديدة أيضًا، ورفضت حتى وضع يدها في يده - وهو أمر متعارف عليه في البروتوكولات الدولية. هذا التصرف يعكس سوء إدارة للأزمات والخلافات الزوجية، خاصةً أنها حدثت أثناء زيارة رسمية خارج بلادهما، حيث يتحمل كلاهما مسؤولية تمثيل ثقافة بلادهما، مما يزيد من أهمية ودقة التعامل مع الموقف.
وفي هذا السياق، لا بد أن نستحضر دائمًا أن القيم والمبادئ، سواء كانت فطرية أو إنسانية أو دينية، تظل ثابتة لا تتغير بتغير الزمان أو المكان، ولا تتبدل بتبدّل الأشخاص أو مناصبهم، مهما علت مواقعهم الرسمية. فهي المعيار الحقيقي لسلامة السلوك وصلاح الإنسان.
وعند الحكم على أي موقف، يجب أن يكون الميزان هو العقل والأخلاق والضمير الديني والإنساني، دون مجاملة أو تبرير لسوء الخلق، مهما كان مصدره. فالتهاون مع مثل هذه التصرفات قد يُسهم في ترسيخ نماذج سلبية تُحتذى، إذا لم تُقابل بردود واضحة وصريحة تُدين السلوك غير المقبول.
ومن هنا، فإن من واجب كل إنسان سوي أن يُظهر رفضه الواضح لأي تصرف مرفوض، سواء صدر من زوج أو زوجة، أو من أي شخصية كانت، لأن القيم لا تُقاس بالألقاب أو المناصب، بل بالفعل والسلوك.