.. لا تختزلوا الحسين

لحسين الذي فهمناه مختزلاً في شخصية عاشوراء ومحجماً في ظاهرة مقاومة الظلم بالسيف وبالظلامة والتصبر في مواجهة السلطة الأموية بالتأكيد ليس هو كل الحسين الذي يجب أن نعرفه لأنه لا يمكن بأي حال اختزال الحسين في عاشوراء كما لا يمكن اختزال النور في قرص الشمس فالحسين عليه السلام مدرسة الحياة كل الحياة وإن كانت عاشوراء تحمل في خضمها ما تحمل من معان الحياة السامية .

الحسين الذي عرفناه خلاف الحسين الذي يجب أن نعرفه جيداً وعرفه لنا الكتاب سواء الشيعة منهم أو السنة لأن الحسين أمامٌ فوق التقسيمات الاثنية والطائفية والمذهبية الضيقة ، ففي الوقت الذي وقف فيه ابن كثير ومن قبله شريح القاضي متنكرين للحسين مكانته تحت وطئه الضغوط السياسية والمطامع الاقتصادية والمكتسبات السلطوية خوفاً على رقابهم ، فواحد يصدر الفتاوي لتبرير قتله والآخر يشنع عليه لينشأ من بعد ذلك تياراً لا هم له سوى مقارعة الموحدين والموالين ولا عقيده له ولهم سوى التأليب والتقريع والتخطيء والربط ما بين الكراسي والصولجانات وبين الرؤس التي حان قطافها كما يقول الحجاج ، ولو كلف ذلك دمار بغداد أو خراب البصرة خلال أربعة عشر قرناً ، لتحصد جراء ذلك جماجم الابرياء عربوناً وثمناً بخساً للطائفية الممقوتة من كل العقلاء ، لتأتي لنا بعد ذلك الصحافة الصفراء وتدق ناقوس الخطر على ما يصطلح عليه الاعلام الصهيوني الخطر الفارسي في مقابل الاسلام السني كما صرح بذلك شمعون بيريز رئيس الوزراء الصهيوني الاسبق ولا أدري كيف تتوافق الإرادات الصهيونية مع اجندات الفتنة أنى كان مصدرها .

ولأن الحسين أكبر من غوغاء شعارات ثوار المقاهي وطواحين الفوضى وجعجعة المتصارعين على كعكة شيء اسمه السلطة ، لذلك فإن فهم الحسين الدين بحاجة لقراءة طالع قعر الفناجين وسماوات الساسة وأحاجي الفلاسفة والمتألهين لكي تتموضع العيون على ما يبلسم جراح التاريخ الغائرة ، باعتبار الحسين جرح لما يندمل ، فما دام هنالك ظلم للإنسانية فهنالك صوتُ للحسين ، وما دام هنالك انحراف في السياسة وتلكأ في مسارات الحياة وتنطع في صروف الدهر فهنالك حاجة وتعطش لمنابع العدالة وهل تستطيع الدنيا أن تجد شربة روية للعدالة لا تظمأ بعدها الأمة بدون الحسين .

الحسين ليس مجرد ظاهرة اجتماعية صرفة أو ظاهرة صوتية عابرة لقارات الوعي الانساني بل هو قضية متجذرة في العقل الباطن والروح والطينة المقدسة التي خلقنا منها قبل الخلق مذ كانت الريح تستاف من طينته قبساً لتؤلف أولى خلايا منشأ الوجود ومنشأ الضمير وأولى سلالات هندسة الروح الوراثية حباً وبغضاً ، لذلك كان الحسين حاضراً في وجدان الانبياء وحاضراً في دموعهم وعواطفهم ومخالطاً لآمالهم الكبرى وآلامهم .

ومن كان يظن أنني أبالغ في التوصيف مبالغة الشعراء في مجازاتهم فليقلب صفحات الروايات متواترها وآحادها صحيحها وحسنها ليكتشف بأم عينه مستقر ومستودع الحقيقة (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) فالحسين القضية ليس مجرد انتماء مذهبي واهتمام عاطفي أو شخصي نقيم له كرنفالات الطقوس المتوارثة كابراً عن كابر بحكم انتماءنا بل هو عين الابداع التي تفجر فينا الينبوع الذي قد علم كل منا مشربه منه ، فالتعطش الفطري الكامن في ذواتنا للحقيقة هو عين ما رمقه اعداءه في احباءه فما فتؤووا يقطعون اوصاله بغية محو حقه دون أن يستنقصوا من حقيقته قيد أنمله أو يستقلوا من مكانته .

إن تلك النظرة المادية الصرفة المكونة لسيكلوجية اعداءه بناء على معطياتهم القاصرة التي تعتقد أن فناء الافكار يمر عبر إفناء الاجساد ، هذه النظرة القاصرة البتراء واجهها الإمام الحسين عليه السلام بفلسفة التضحية ، وخالفهم فيها حتى نيوتن بقانونه المشهور :- "المادة أزلية لا تفنى ولا تستحدث " فإذا كان كبار فلاسفة الماديين لا يؤمنون بفناء المادة بل بتحولها فكيف يمكن للمؤمنين أن يعتقدوا بفناء الروح المقدسة بفناء الاجساد بغض النظر عما يخالط هذا القانون من التباسات تتعلق بأصالة مفهوم الأزلية وإن كان ما يهمنا في الاستشهاد بهذا القانون جنبة العموميات لا الغرق في بحر التفاصيل .

لذلك اعتقد جازماً أن من يريد أو يظن أنه يمكن اختزال الحسين أو تحجيم مكانته السامقة فهو واهم وهم السفسطائيين في حقيقة الوجود الذين يعتقدون أن الانسان والكون ما هو الا خيال محض ، ومصدر ثقتنا أننا حسينيون ليس بالاعتقاد فقط بل بالفطرة وبالعقل والدليل والبرهان والوجود والتاريخ .

لذلك ارجوكم لا تختزلوا تشيعنا للحسين في التشيع العلوي والصفوي كما يذهب لذلك الدكتور علي شريعتي في دراسته وخلطه ما بين الطقوس التي نمارسها وفضاءات الاعتقاد لأن الامام الحسين اكبر من كل المعادلات الضيقة القابلة للترميز والاختزال لأنه وبكل بساطة الامتداد الطبيعي للإمامة والنبوة ولرسالات السماء إنه من يعيد تشكيل الحياة كما أرادها الله لا كما يريدها الجبابرة والظلمة والسفهاء فأولئك هم من يريد للحياة أن نتشرنق في زواريب المصالح السياسية الضيقة القائمة على الاستعداء لا ثقافة التسامح والحب التي تسع الدنيا والآخرة .