القراءة والعين الناقدة

عندما يقرأ أي منا وهو مستسلم للكاتب ومسلِّم بما في كتابه فإن هذه بداية النهاية للاستقلالية الفكرية التي ينبغي أن يتسلح بها الجميع في هذا البحر الهادر والطوفان الكبير الذي يواجه القارئ في عالم اليوم.

فرغم أنني مع قراءة أي شيء يقع بين يدي القارئ، فإنني لست مع التسليم بجميع ما يقرأ، بل لا بد من إخضاعه للفحص والنقد والتحليل. وإذ ليس للجميع القدرة على ذلك فليس الحل في عدم الانفتاح على القراءة؛ بل مواصلتها مع تأجيل تبني الآراء الموجودة في الكتب إلى وقت آخر لحين الوصول إلى مرحلة النضج، التي تحتاج إلى وقت ليس بالقصير.

وتسمى حالة التماهي مع الكتب أو الكتّاب بالتوحد معهم، وهو ما يحصل بعد الانبهار بمضامينها التي تجر إليها إما كاريزما الكاتب فيما سبق من كتب، أو شخصيته عندما يتحدث، أو ما اشتهر به في وسائل الإعلام التقليدي أو الجديد. وقد يقود هذا التوحد إلى درجة من التعصب له تجعل القارئ أسيرًا له أو لخطه الفكري، وهو ما لا يريد أحد الوصول إليه.

وينقسم الناس في تعاملهم مع ما يقرؤون إلى ثلاثة أنواع؛ فالنوع الأول يقرأ ويصدق ويتبنى كل ما يقرأ، معتبرًا أن كل ما في الكتب صحيح. والنوع الثاني هو الذي أحاط نفسه بسور عال بحيث لا يتأثر بما يقرأ، وتقف كلمات الكتب لديه عند حدود المعلومة لا أكثر.

وكلا النوعين فيه إشكال؛ فالذي يقرأ ويصدق كل شيء سوف يجد نفسه بعد مدة في دوامة خطيرة، إذ تأخذه الأفكار يمنة ويسرة، ولا يكاد يستقر على رأي. وأصحاب هذا النوع هم غالبًا المبتدئون في القراءة على وجه التحديد، أو ضعاف الرأي والذين لم تتبلور لديهم آراء خاصة في الموضوعات المهمة في الحياة. ولذلك فإن برناردشو وصف بطل رواية دون كيشوت وصفًا دقيقًا حينما قال: إن القراءة جعلت منه إنسانًا نبيلًا، لكن تصديقه لما يقرأ جعله مجنونًا. وتدور أحداث الرواية حول شخص «ألونسو كيخانو» الذي قرأ كثيرًا عن الفروسية حتى تخيل نفسه بطلًا من الأبطال الذين لديهم رسالة مهمة في الحياة، وغيَّر حتى اسمه لكي يقوم بمهمة غير واقعية.

أما النوع الثاني فيمكن إطلاق وصف المتحجر أو الجامد عليه؛ لأن الزمن قد توقف لديه عند ساعة محددة، ولا يعترف إلا بالمسلّمات التي آمن بها في يوم ما، ولذلك فإنه مهما قرأ فإن قراءته تبقى قراءة انتقائية، ويستل من بطون الكتب ما يعزز قناعاته المسبقة ليس إلا.

أما النوع الثالث فهو القارئ الناقد، الذي يغربل ما يقرأ حتى يستخلص منه ما يفيد، وينبذ ما هو ضار.

إن العين الناقدة في القراءة مطلوبة، بل إن البعض يجزم بأنها سر تقدم البشرية حين تسلح بها العلماء والمفكرون والمخترعون، ولولاها لبقي الإنسان رهين أفكار العصر الحجري، ولما فكر حتى في اختراع العجلة وفي اكتشاف النار وفي استخدام الآلة وتطويرها على مدى قرون مضت.

ولا نقصد بالعين الناقدة قبول أو رفض الأفكار المطروحة، لأن فيها دائمًا الصحيح وغير الصحيح، بل المطلوب تفاعل واع مع المقروء، ثم تبني الصحيح منه والبناء فوقه، ونبذ غير الصحيح، وكل هذا بعد مدة من التمحيص والبحث. والملاحظ أن القدرة على تنشيط العين الناقدة تزداد مع زيادة الأنشطة القرائية.

  •  ”القراءة تمد العقل بلوازم المعرفة فقط، أما التفكير فيجعلنا نملك ما نقرأ“. جون لوك
  •  ”إن كنت ستصدق كل ما تقرأ، فلا تقرأ!“. أدهم شرقاوي