قبل فوات الأوان

الكثير من الأفكار والآراء، لا تحتاج للكثير من المقدمات والمقاربات، خاصة حينما تكون مستقلة بنفسها وتصل لمرادها بمجرد أن تُسطّرها حروف الدهشة وتُثبّتها معاني الإلهام.

وللقصة مهما كان هدفها وحجمها، قدرة فائقة على استحضار الفكرة والوصول للعبرة، وبشكل بسيط وسريع، وهو أمر عادة ما تعجز عنه الكثير من المقالات والخطابات.

منذ فترة وأنا أجهز لكتابة موضوع مهم يمسنا جميعاً، وهو عدم البوح والإعلان عن مشاعرنا الجميلة وأحاسيسنا الإيجابية تجاه الآخرين، القريبين أو البعيدين، وهو ما قد يُشعرنا بالحسرة والندم حينما تفيض تلك المشاعر والأحاسيس متأخرة أو بعد فوات الأوان، حشدت الكثير من الأفكار والكلمات والعبارات والمعاني والاستدلالات، وبدأت فعلاً بالكتابة عن هذا الموضوع الحساس، ولكنني تذكرت فجأة أنني تأثرت كثيراً بقصة قصيرة قرأتها منذ سنوات وهي قصة ”الألم“ للأديب والكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف ”1860 - 1904“، وهي أشبه بمونولوج حزين بطله ضمير صاخب:

يُحكى أن فلاحاً عجوزاً وضع زوجته المريضة في المقعد الخلفي من العربة التي يجرها حصان هزيل، متجهاً للمدينة البعيدة لعلاجها، في الطريق الطويل، بدأ الرجل يتحدث، كأنما يناجي نفسه، ولكنه كان يواسي زوجته المريضة التي عاشت معه طيلة أربعين عاماً في شقاء وبؤس، تساعده في الحقل وتتحمل وحدها أعباء البيت، لقد شعر بأنه كان قاسياً معها كل تلك السنوات الطويلة، وآن له الآن أن يعاملها بلطف ولين، وأن يُسمعها الكلمات الطيبة التي حُرمت منها منذ أن تزوجته، وكان يقول لها بحرقة بأنها كم تحملت ظلمه وقساوته، وكم يشعر بالندم الشديد لأنه لم يجد الوقت في حياته اليومية ليقول لها كلمة عذبة وطيبة أو يُهديها ابتسامة صافية ورقيقة كالماء أو يعطيها لحظة حنان، واستمر يتحدث بحزن وأسى، طيلة ذلك الطريق الطويل، ووعدها بأن يعوضها عن كل تلك السنوات الكئيبة ويُحقق لها كل ما تتمنى، عندما وصل المدينة، نزل من المقعد الأمامي ليحملها بين ذراعيه لأول مرة في حياته إلى الطبيب ولكنه وجدها قد فارقت الحياة، كانت جثة باردة، لقد ماتت بالطريق، ماتت قبل أن تسمع حديثه العذب الشجي الذي قاله لها لأول وآخر مرة في حياتها.

عزيزي القارئ، ماذا لو أعدت كتابة هذا المقال بشكل مختلف ولم أضع فيه هذه القصة، ورصصت فيه أرتالاً من الكلمات والعبارات المزدحمة بالندم والحسرة التي لم يعد لها فائدة أو تأثير لأنها مشاعر مُسيّجة حُبست ولم تتحرر في وقتها ولأنها صرخات موؤدة خُنقت في سراب التردد والتأجيل، أي من المقالين ستُفضّل: هذا أم ذاك؟

كاتب مهتم بالشأن السياسي والاجتماعي والوطني