الحي الميت

 

أحب عمله وأخلص لهُ وكانت الورقة والقلم أصدقائه المقربين ولم يفارقهم وأحيانًا يرفع رأسهُ ليتأكد من اسم المريض وعمره ونتصف الليل بقليل وقل ضغط العمل عليه فأخلد للراحة وترك للجسم الاسترخاء لدقائق .

اهتز المكان وتحرك كل ما حوله , وصرخ زلزال , وهو لا يعلم حقيقة الصرخة , وقبل أن يصرخ زلزال للمرة الثانية .

 سمع صوت امرأة تقول طبيب الطبيب !!!

 ونتقل من عالم الحلم إلى عالم الواقع على صوت البكاء والعويل , وقف ومد رأسه وتحقق امرأة في العقد الثالث , وطفل يمسك أمه ويتعثر في المشي لصغر سنه وطفل بين ذ راعها تخاف أن يسقط لا عن ثقل بل لأن اليد الأخر تمسك الرجل الثالثة .

اعتذر منها وقالت : لو سمحت الطبيب أولًا وسأل عن الاسم والعمر , فقالت : الطبيب قبل أن يحصل مالا تحمد عقباه .

 خرج وحمل أبنها وسار معها إلى غرفة الكشف , وهو يتأمل طفلها المريض والصغير , وتألم لوضعها أسرع الخطى نحو الطبيب قبل أن تذوب حبة الدواء في الماء وبمجرد وضع السماعة على أبنها قالت : لطبيب ساعد أبني لا أتحمل فراقه حتى ولو لثانية وطمأنها الطبيب على ابنها وتجاوز مرحلة الخطر , وعدت الأزمة بسلام حمدت الله تعالى وشكرته .

 قال لها الطبيب : يجب خذ الحذر وعدم أخذ الحذر وعدم التأخر عند حصول الأزمة حتى لا تتطور الحالة إلى الأسوأ , وبعد سماع إرشادات الطبيب وتوجيهاته عن كيفية التعامل في مثل هذا الوضع . شكرته وشكرت كذلك موظف الاستقبال الذي لم يبخل عن مساعدتها .

انهارت قوتها ولم يكن في مقدورها حمل الطفل فأحب أن يساعدها .

 وقال لها : أين تقف السيارة ؟

 قالت : حضرت مشيًا على الأقدام .

قال : لحظة اسلم عملي وأساعدك على حمل الطفل .

قالت : يفصلنا عن المنزل مسافات طويلة .

 لم تكن إجابة كأنها منوم وسكن عن الحركة وبرزت عيناه وتحركت شفتاه .

وأين والده ؟

ولماذا لم يحضر معكم ؟

 وكيف تسمح له نفسه أن يترككم في هذا الوقت المتأخر ؟

قالت : دموعها قبل لسانها واعتصر أطفالها قبل أن يعتصر قلبها .

هدأ أنين المرضى وحقنت المرضى بكلماتها , وانتعشت صحتهم , وخطت رجلها الثالثة لتحررهم , وتبسمت لتخدر عقولهم .

 قالت : والدهم بحثت عنه بين الأموات ولم أطلع على خبرهِ ,  وسألت الأحياء ولم يعثروا له على أثر , ودليل بقائه على الأرض وجود أطفال رضع , ودليل فنائه عدم العثور على الأثر .

 قال لماذا لم تتحرك غيرته أو أبوته لمساعدتكم ؟

قالت : هل الجمادات تتنقل ؟

أشار بيديه لا .

ولسانه قال : لا أفهم .

 قالت : رمزه موجود ومشاعره وتفكير عقله دُفنت عند أعتاب السكن .

 لم تكن إجابة بل مشرط جرح قلبه وجرى الدمع في الأوعية أنهار .

 قال : هل يعلم بوضع ابنه الصحي ؟

قالت : له عينان تبصر ولا ترى الجسد المتآكل من المرض , وأذنان لا تستطيع سماع همسات الأنين .

قلبًا حيرني ينبض بالحياء رغم تحوله إلى صخرة صماء .

قال : من المخاطب بهذا الخطاب ؟

قالت : ذلك بقايا رجل تآكلت كل القيم الإنسانية في داخله وتجمدت دموعه في قنواتها .

 قال : ألم تتناقشين معه عن طبيعة مرض ابنه ؟

 قالت : هل فاقد البصر يميز بين الأبيض والأسود ؟

وهل الأصوات العالية يسمعها فاقد السمع ؟

 وهل الصخرة الصماء يأخذ منها الضرب ؟

 واللسان المبتور يستحيل الحوار معه !!!

 قال : ألتمس منك العذر لفتح عمليات أغلقت قبل تنظيفها وتعقيمها !!!

 قالت : بعضها أغلق وأغلبها مفتوحة تعب جسمي من إبرة الجراح لم يترك مساحة إلا وجرحها وإن وقع الجرح على الجرح , ونبع الدم القاني من كل عملياتها ورأى سريان الدم في أوعيتها .

لم يكن يحتاج لسمعة الطبيب لسماع دقات قلبها , ولا قياس الحرارة أو الضغط , وتوقع أن يصل قياس الضغط إلى ذروته , والحرارة اقتربت من درجة الغليان .

أجهد نفسه حتى يحتوي على الموقف , ونفلت منه الزمام , وتعفنت كل العمليات , وستنشق عبير رائحتها كل مريض , وجُمعت وصفاتها قبل أن تطير , واختلفت أسماء الأدوية , وكلها تهدأ الآهات لا تبترها .

مضمونها أنها تحملت أعباء المريض والطبيب والممرضة , ولم تنسى دور الموظفات والعاملات .

ويتحلل نخاعها في المختبر كما تحللت من المرض رجلها . وتبلى محاسنها كما أبلى المرض براءة الطفولة على محيا ولدها .

رافقها إلى مسكنها وتمنى , أن يتقمص دور الطبيب لساعات معدودة , ليوقع على ورقة التنويم لزوجها وعدم مغادرة السرير وتقيده بكل الأجهزة .

و ورقة أخرى لها ولطفلها بشفائهم التام من جميع الآهات .