الختان الثقافي .. ضرورة أم ترف ؟

 الختان عملية ضرورية للذكور فهي نظافة ، كما تمنع الإصابة بالأمراض مثل عدوى الجهاز البولي . بالإضافة إلى عامل آخر قد يجهله العديد من الآباء وهو العامل النفسي الذي يتعرض له الطفل عندما يجد نفسه مختلفاً عن باقي أترابه فى حين أن بعض الشعوب توجد آراء متضادة عندها ما بين التأييد والرفض لعملية الختان للذكور فالمؤيد يرى أنها من أجل صحة الطفل ، والرافض لها يرى أنها ما هي إلا عملية مؤلمة جسدياً ونفسياً للطفل وتتسبب له في عقدة نفسية تلازمه طيلة حياته . 

 وقد نقلت وكالة " رويترز العربية " بتاريخ  ‏23/11/2009‏ توجه نحو مئة طفل مسلم الى المسجد الوطني في العاصمة الماليزية " كوالالمبور " لبدء طقوس"  ختان جماعي " والمناسبة التي نظمت لتتزامن مع عطلة المدارس في نهاية العام التي تستمر حتى ديسمبر كانون الأول - وتناقلتها وكالات الأنباء العالمية - وهي طقوس الانتقال من مرحلة الى مرحلة بالنسبة للصبية بين 6 - 12 عاما حيث يتوجب عليهم إجراء الختان . والختان عملية إلزامية للصبية المسلمين وينظر إليه على انه احتفال بالوصول الى الرجولة. وقد سار الصبية في المسجد الوطني في كوالالمبور على صوت قرع الطبول وعلى إيقاع رقصات الملايو التقليدية لإعلان بدء الحفل البهيج .

 دعونا نسقط هذه المسألة على الواقع الثقافي الذي بات يعاني من الزوائد من جميع الجهات حتى أصبح شكل ثقافتنا أشبه بجسد ( القنفذ Hedgehog) تملؤه الأشواك من كل جانب وهي وسيلته الفاعلة للدفاع عن نفسه عندما يتعرض للخطر من خصومه ، فيصعب الإمساك به ، أو البقاء عليه . بل يحتاج لطريقة احترافية من أجل نقله ، وحفظه ، إلاَّ أن يتم تقليمه وتهذيبه " فلعلَّ وعسى " وكذا الحال في الثقافة الإجتماعية فهي بحاجة إلى عملية ختان تُعيد لها عافيتها ، وتمكنها من القيام بوظائفها على خير ما يرام ، وتحفظها من الأمراض المعدية التي إن استوطنتها كانت سبباً في سقمها المزمن ، وهلاكها " لا سمح الله " .  

 وفي مطلق الأحوال لا يمكن التغافل عن أن البيئة الإجتماعية لأنها التي تشكل ثقافة الفرد ، وتسبغ عليه من ثقافاتها السائدة ، وتحتل تبعاً لذلك مساحات كبيرة في فهمه وعقله ومسلكايته وطرائق معيشته ، لسبب مباشر ، ذلك لأن البيئات الإجتماعية في الغالب الأعم ما تكون عاكسة لجملة من الموروثات الثقافية ، وتحتوي على خزانة تزدحم بالتراثيات الماضوية والمنقولات الشفهية والثقافات السائدة ، وبالكثير من تراسل العادات والتقاليد والمعرفيات ذات الآفاق الضيقة المقولبة في اتجاهات محتبسة ومنكفئة على مساراتها الداخلية فقط ، ولا ترتقي لأن تكون " ثقافة عابرة للقارات " بيسر وسهولة .

 وحينما تستحضر مجتمعاتنا ( بعض ) موروثاتها الثقافية وتتمحور حولها وتدور في أنساقها المحدودة وتنغلق عليها ، وتنشُد من خلالها التعامل مع الواقع والمستقبل ، فإنها تُجذِّر في أفرادها ثقافة الجمود والتعصب والانغلاق ، أو ما يمكن أن نسميه ( آحادية الثقافة ) ، وتشيع تبعاً لذلك ثقافة عدم التسامح والتقوقع نحو الداخل ورفض التعددية الثقافية ، على العكس تماماً من البيئات الإجتماعية الحية الفاعلة المنفتحة التي تؤمن بمدى أهمية أن تكون المعرفيات الثقافية عاكسة لروح التغيير والتفاعل والانفتاح ، وتسعى دائماً للتعبير التفاعلي مع عالم المتغيرات ، وتساهم في صناعة السياقات الثقافية المُشبعة بالانفتاح والتغيير وتعمل على إتاحة الفرص الحقيقية والمناخ الطبيعي لولادة التعددية الثقافية والمعرفية التي تلتقي في محطات إنسانية مشتركة ( ماليزيا ) إنموذجاً. 

 ولذلك عادةً ما تتصف البيئات الإجتماعية الحية الفاعلة بالإستمرارية وعدم التوقف عند حدود معينة ، بل تسير دائما نحو التعامل الطبيعي والتدريجي مع المتغيرات وتتفوق على نفسها بالإستمرارية من خلال خلق وقائع فكرية متجددة تثري تجربتها الميدانية بالمعرفة والتماسك والتطلع نحو الأفضل ، وتتصف أيضاً تلك المجتمعات الحية الفاعلة بروح المنافسة الذي تفرضه حتمية قبولها الدخول في معترك المتغيرات الكثيرة ، وتخلق المنافسة لديها في ذهنية أفرادها مناخات التوجه الذاتي نحو اجتراح سبل التعامل الفاعل والجدي مع التطور الدائم للحياة  .

  من هنا فهذه المجتمعات تعمل من خلال تمتعها الكامل بخاصية المنافسة على تنمية المدارك العقلية ، وتقوية روابط التداولات المعرفية في أوساط مجتمعاتها وتنزع تبعاً لتلك الخاصية نحو التركيز المكثف على ( احترام فردية الإنسان ) وإعطائه الفرصة الكاملة للتعبير " المسؤول والمُقنَّن " في شتى المجالات ، وربما من إحدى أهم الصفات الإيجابية في تلك البيئات الإجتماعية الفاعلة صفة ( القيام بعملية ختان متكررة ) كلما أحست بقصور في أداء ثقافتها ، لتحافظ على تطورها الدائم وعدم الجمود والإرتكان لمرحلة محددة ، فنجدها مجتمعات تؤمن بالتطور وتنشد التكامل في سياقاتها الثقافية وتعاملها مع الواقع وعالم المتغيرات من حولها ، فهي في النهاية مجتمعات متطورة في المطلق لأنها تتمسك بأحقيتها التنافسية في اعتلاء منصات العالم الحديث ، والتواجد بفاعلية في تجاذبات الحياة العصرية ، رغم أنف من سلّطوا أنفسهم على حاكمية العالم .
 
 إن الثقافات في أي مجتمع تتحول وفق أنساقها النمطية إلى كيانات وقوالب ثقافية تتجذر في تراسلها التاريخي المجتمعي ، وتملك بالتالي سلطة الهيمنة والاستحواذ وقوة التعاقب الزمني ، ولذلك ليس غريباً إننا نجد إلى يومنا هذا في مقابل الثقافات ذات الآفاق الكونية الرحبة التي حققت فتوحات علمية ومعرفية مذهلة في شتى الاتجاهات من خلال إخضاعها لعملية ( ختان ) دائمة . أقول نجد في مقابلها ثقافات انغلاقية وماضوية وموغلة في السطحية والقشرية والقدرية ما تزال تصارع من أجل أن تحافظ على بقائها صامدة في وجه تلك التموجات الثقافية الجارفة لكل ما هو جامد وثابت وانغلاقي .

  إنني أعتقد إن سبب استماتة تلك الثقافات في المحافظة على كينونتها المعرفية وطبيعتها الداخلية الجامدة ، إنها ثقافات ترسَّخت في العقل والوجدان والمخيال المجتمعي عبر تعاقبات الزمن وانتظمت بشكل رتيب وقاسٍ في المحافظة على هويتها الثقافية من خلال إيمانها المطلق بالسائد من ثقافاتها ومسلكياتها وخضوعها لطريقة تعاملها مع أنساق الحياة ، ونأت بنفسها وبصلابة كبيرة عن التداخل مع الثقافات الأخرى ، بل وتنظر إليها على أنها " ثقافات مُعادية " يجب القيام بصدها ، ورد كيدها إلى نحرها !! فإن كنا كذلك ، فكيف لنا أن نتحاور مع بعضنا كمجتمعات أولاً ، وكأمم ثانياً ؟ أولسنا بحاجة بإستمرار لختان ثقافي جماعي حتى نصبح أكثر استطاعة للقيام بدورنا الإنساني والثقافي ؟ تحياتي

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 5
1
فائق المرهون
[ السعودية - ام الحمام ]: 27 / 1 / 2010م - 11:51 م
الأستاذ ابراهيم / وفقه الله
ماأحوجنا إلى الختان الثقافي والفكري بل وحتى السياسي والديني إن أمكن !
لأن الإنغلاق والكبت أصبحت ديمومة بعض المجتمعات خصوصا الشرقية منها , والحجة جاهزة في مطلق الأحوال وهي الخصوصية والموروث الديني والثقافي الذي بات مقدسا !
فلعل الختان يصوب ويعطي دفعا للأمام , ويخلق حالة جديدة لاننادي فيها بالانصهار والذوبان بل بوجود قواسم مشتركة يكزن فيها الحوار الحضاري واحترام الآخر سيد الموقف .
عزيزي / قالت العرب قديما (وعلى الخبير وقعت)
وهانحن اتحفنا الوجود بريشة قلمك الساحر , ونبع فكرك الشامل , لتكن دعوتك الصادقة للختان الثقافي اذا ضرورة تتعدى كل إدعاء بأنها ترف وتكلف .
سموت في العلياء .
2
ابراهيم بن علي الشيخ
28 / 1 / 2010م - 10:12 ص
أخي الحبيب : الأستاذ فائق المرهون
سلام عاطر لشخصك الكريم ، وقلمك المستقيم ، توقعت منك المبادرة للتعليق وفعلت . وأتفق معك تماماً في أن ( الخصوصية ) باتت تمثل مفصلاً لكل ما هو جديد ، وقوة مركزية طاردة تنأى ببعض المجتمعات عن مسايرة المستجدات ، والتهيب من القيام بعملية أي ختان ولو على مستوى السطح ، والموضوع بقدر ما هو شائك وشاق ، إلاّ أنني تعمدت عدم الخوض في العمق لئلا تنال مني المقصلة !! على العموم توقعت منك طرحاً يقتحم الباطن . ولكنني أُقدِّر قرارك . مودتي وتحياتي .
3
المستقل
[ ام الحمام - القطيف ]: 29 / 1 / 2010م - 1:16 م
الأستاذ الغالي / أبو علي
• أولا :
ما تطرقت له من خلال مقالك موضوع في غاية الأهمية و حساس جدا لأنه يتعلق بالموروث الثقافي و ما أكثر المتعلقين بأذيال الماضي بلا دليل بس لكونه أرث تناقلته الأجيال و ما أكثر الامثله التي تحتاج إلى ختان بل إلى بتر و منها :
1 – الموروث المنتشر في مجتمعاتنا بأنه لا تختم الفاتحة في ليلة سبت أنا لا ادري من أين جاءنا هذا الموروث هل يستند إلى دليل شرعي أم فكره صدرت لنا من الخارج حتى أصيح هذا الموروث لا يمكن المساس به حتى على مستوى المعممين لا يمتلكون الجراءة في تفنيده .
2 – من المنتشر في مجتمعاتنا عندما تتوفى الزوجة لا يحق لزوجها أن ينزلها القبر و لا أدري هل هذا الموروث الثقافي مستند إلى دليل أم مجرد أرث لا أصل له.
3 – العقل يحكم بتقديم الفاضل على المفضول و لكن للأسف ما هو منتشر في مجتمعنا خلاف لهذا و هذا ما نراه في المناسبات الاجتماعية أو ألدينه نرى بأن أبناء المجتمع سواء كانوا كهولا أو شابا يفسحون المجال لمن يرتدي العمامة أو البشت لا لقيمة علميه أو لكونه يمتلك و عيا ثقافيا يستحق أن يكافأ عليه بس لكونه يرتدي قطعة قماش لا تغني و لا تسمن عن جوع و يهمش من هم يمتلكون شهادات علميه و وعيا ثقافيا لا لشيء بس لكونهم ليسوا بمعممين و كلامي هذا ليس تقليل من قيمة العمامة على العكس العالم أو طالب العلوم ألدينه عندما يكون قيمه و يعطي هذه العمامة حقها يستحق أن يرفع على الأعناق .
• ثانيا :
هنا يا أستاذي العزيز مداخلتي لا تتعلق بفكرك الواضح و بشخصك الكريم و لكن لفت انتباهي مطالبة أللأخ و الأستاذ العزيز فائق المرهون بمطالبته بالختان الديني و أنا أضن في شخصه الكريم كل خير و لكن ما أحببت من شخصه الكريم أن يوضح لنا ماذا يعني بالختان الديني . الدين ليس من صنع البشر شرع أنزله الله على رسله ليبلغوه للناس فمن أحكامه ما هو قطعي الصدور مستند إلى دليل واضح كوجوب الصلاة و الصوم و منه ما يحتاج إلى استخدام العقل في فهم الدليل و هذه تسمى بعملية الاستنباط و يعبر عنها الفقهاء بدائرة الفراغ .
فهل المطلوب ما ينادي به الليبراليون الذين ينادون بمحاربة الثلاثية البغيضة المتركزة بالتسلط ( الثقافي – الاقتصادي – السياسي ) و لكن بين هذا و ذاك يبطنون رغبتهم في تميع الأحكام الشرعية حسب توجههم و ما يتناسب مع مذهبهم الفكري حتى يتحقق لهم ما يصبوا إليه.
و تحياتي لك يا أستاذي على جراءتك في الطرح المتوازن و شكرا لفكرك النير و شكرا للأخ المهذب المثقف الأستاذ فائق المرهون على مداخلته المحترمة متمنيا أن يسعني برحابة صدره فهو كريم أبن كرماء.
4
ابراهيم بن علي الشيخ
30 / 1 / 2010م - 12:07 م
أخي الودود : المستقل
أشكرك على مداخلتك القيمة ، وما سقته من بعض الممارسات الثقافية التي تحتاج إلى ختان ( أضعها برسم القراء والمهتمين ) أما ما يختص بسؤالك الموجه للأستاذ : فائق المرهون . فقد أعجبني ( أدبك الجم ، وثقافتك الطيبة في التعامل مع مجتمع الإنترنت ) وحُسن ظنك الذي أحسبه قد أكسب تعليقك رونقاً متميزاً ، وهو من طباع الأستاذ : فائق بالتأكيد . طبت ضميراً متصلاً لكل المؤمنين . تحياتي .
5
فائق المرهون
[ السعودية - ام الحمام ]: 30 / 1 / 2010م - 6:35 م
الأستاذ ابراهيم / وفقه الله
مقامكم الكريم تواضع كثيرا , وأعطانا دون مافينا , وأنتم سيد هذا المقال , وقبولكم برأينا البسيط هو تقدير مابعده تقدير , وقد رميت بمهارتك المعهودة الكرة في مرمانا ومرمى الآخرين .
دمت نيرا كما عهدناك .
الأستاذ المستقل / أدامه الله
شكرا جزيلا لإطراءك الذي أخجلنا , ونحن بالتأكيد أقل من هذا , عموما جنابكم الكريم أجاب عن فكرتي بشكل غير مباشر , المطالبة بالختان الديني تتلخص في مفهومنا البسيط في تشذيب وتهذيب مااعترى بعض الممارسات المنسوبة للدين والمذهب من أشياء قد تجلب القذف بالحجارة والتصيد العكر , في عصر نحتاج فيه للمحافظة على الدين وإبعاد أي شبهات قد يثيرها هنة هنا أو هناك .
سلمت ودمت خلوقا , ورعاك الباري .
إستشاري سلوك وتطوير موارد بشرية