في أثر عادة القراءة وفوائدها

خلصنا في المقالة السابقة إلى إن خلق جيل قارئ ومحب للمعرفة يتطلب من المؤسسات التعليمة صياغة مناهج تربوية وتعليمية تغرس في الناشئة حب القراءة والتشجيع عليها، وإبداع السبل التي تشجعهم على ذلك، والعمل على تأسيس مبادرات جادة تعمل على تعزيز ثقافة المطالعة في المدارس، من خلال تخصيص حصص للقراءة، وإقامة مشاريع وورش ومسابقات تشجع هذا التوجه، وتُحفِّز التلامذة على المطالعة. يضاف إلى ذلك إعداد وتأهيل معلمين وأساتذة مؤهلين وأكفاء يقومون بأداء هذه المهمة.

إن الهدف الأساس من صياغة مثل هكذا مناهج تربوية وتعليمية تغرس في الناشئة حب القراءة هو الإنسان ووجوده، وبناء قدراته، وتوسيع آفاقه، وتطوير مواهبه، وتوسيع مداركه، وتنمية قدراته الذهنية، وقدرته على التفكير السليم. فالدروس والبرامج والمشاريع المدرسية التي تحفز على المطالعة يمكن أن تساهم في تحسين مستوى التلميذ عبر تقييم إمكاناته من خلال الاحتكاك به، واستخراج ما بداخله من قدرات ومواهب، لأن في داخل كل واحد من التلامذة مواهب ومهارات تنتظر من يكتشفها ويعطيها الفرصة للظهور.

وعلى صلة بهذا الأمر تشير بعض الأبحاث إلى وجود علاقة بين القراءة والذكاء، وإمكانية زيادة معدلات الذكاء وتطوير الذاكرة عند الناضجين، "فقد أحصى خبراء التربية والتعليم وعلماء النفس، كثيراً من الفوائد لعادة القراءة؛ فلاحظوا في بحوثهم الميدانية أن الأطفال والمراهقين، ممن يحبون الاطلاع، يتميزون بمستويات ذكاء أعلى، وأداؤهم أحسن في المدارس والكليات؛ كما يتطور عندهم الإلمام بمفردات اللغة.

وإلى جانب ذلك، فإن القراءة تحفز عضلات العين، وتزيد القدرة على التركيز، وتضيف مهارات التخاطب والتحادث. كما يمكن أن تصير عادة القراءة ”إدماناً صحيّاً“، يملأ فراغ الفرد بما يفيده، ويباعد بينه وبين تناقضات الإحساس ومغرياته بالفراغ القاتل، وينأى به عن السأم والملل، وهما اللذان يمكن أن يذهبا به إلى قضاء أوقات فراغه؛ على نحو ربما يكون غير مرغوب فيه". «1»

لا شك بأن هذه النتائج المستخلصة من البحوث الميدانية تثبت وجود أثر عميق، وارتباط مباشر، بين القراءة ونتائجها الإيجابية على من يقرأ، وخصوصاً أثرها على الأجيال الناشئة، وهو الأمر الذي يؤكد قيمة القراءة وأهمية تطوير برامجها. فالقراءة لا تحسن أداء التلميذ التعليمي، أو تساعده على التميز دراسياً، وتحقق له نتائج أفضل في المناهج التي يدرسها، بل هي كذلك مصدر للمعلومات، وتوسع من ثقافته وإدراكه، وتُنمِّي عقله وذكائه، وقدرته على التركيز، وترفع مستوى الفهم لديه. كما إنها تمنحه قدرة على التخيل وبعد النظر، وتنمي لديه ملكة التفكير السليم، والشعور بقيمة الذات، وتساعده على النضج الذهني والعاطفي والاجتماعي.

وليس هذا كل ما هناك من فوائد لعادة القراءة، فهي إلى ذلك تساهم في تطور لغة التلميذ ومهاراته اللغوية. فكلما قرأ زادت حصيلته المعرفية، وأضيفت إلى قاموسه مفردات ومصطلحات وجمل كثيرة تعزز إمكاناته التعبيرية والجَمَالية، وتكسبه حساً لغوياً وحوارياً أفضل، وقدرة على التحدث أمام الآخرين، وتزيد في مهاراته التواصلية معهم. علاوة على أنها أيضاً تبني شخصيته، وتوسع دائرة خبراته المفيدة في الحياة، وقدرته على حل المشكلات التي تواجهه.

زبدة الموضوع، القراءة ليست أمراً فطرياً يولد مع الإنسان، بل تعتبر سلوكاً يكتسبه من خلال التنشئة والبيئة التي يعيش فيها. وحين يتم غرس حب القراءة في نفس الطِفل/التلميذ ويتعود عليها، ويتم تربيته على حبها، ستصبح مع مرور الوقت عادة له يمارسها ويستمتع بها. وكلما تعود عليها في الصغر ترسخت في نفسه مع الكبر، وأصبحت من الأشياء الجميلة والأساسية التي لا فكاك له منها طوال حياته.

غير أن السؤال كيف يمكن للطفل، أو التلميذ، أن يحب القراءة، وينجذب إليها، ويفضلها على غيرها من النشاطات، في عصر كثرت فيه ألعاب الفيديو، وأجهزة الألعاب الإلكترونية، المختلفة الأشكال والأنواع، والتي تحيط به من كل اتجاه، وبين يديه، وفي غرفة نومه، وتستفزه بقوة للعب واللهو والتسلية طوال الوقت، حيث يصرف جلَّ وقته بالجلوس أمام شاشات الألعاب الإلكترونية بالساعات إلى درجة الإدمان، ومستنزفة وقته من دون أن تعود عليه بالفائدة؟

1 - ”أبو ظبي تقرأ“.. لتعزيز المعرفة. جريدة الاتحاد الاماراتية. 17/05/2013