وحشة الكتابة بالحلم عن الذكريات والموت

سلامة جعفر وكائنها الغائب

 

 

يتملكك الخوف من الواقع المتمثل خلف هذه الأحلام المطلقة في البعد الإنساني المشكلة لحياة ثانية .. حياة منتجة داخل اللغة على ضفاف الوجع ..حياة تقفز بنصوص جمالية في وجوديتها ومركزيتها في الوعي بالذات بنكهة رثائية لكل ما هو جميل ومفقود ،كل ما هو ماض لذيذ ،وكل ما هو مشبع للروح في حالة الفقد ،وخصوصا اذا كانت هذه الحياة الشعرية المربِكة والمربَكة ،مسيجة بالبسطاء الذين لا ينطلقون بأحلامهم أبعد من أصابع بوذا في حكايته مع القرد .. ذلك أن أرواحهم لم تعد تحلم كما الأجساد التي يمتلكونها فيعجزون عن الحرية بقدر ارتباطهم بالنرجسية الجسدية والمادة ،فيتأفف الحالم ويتحول بحلمه لعزف منفرد جنائزي لما يحيط به لشدة الموت المحاصر له في هذا الكيان الذاتوي بمجتمع متبلد ،أو لنقل مجتمع ميت .

معنى أن تنجز نصا نوعيا في مجتمع غير منتج لنص نوعي أن ترتكب خطيئة المغايرة والاختلاف ..خطيئة الشذوذ عن فكر القطيع وعلى الأخص عندما يكون النص يحفر أثرا جديدا في بعده المعرفي ،إنك حينها تعكر الصفو السائد وتوقظ النيام .. تثير الفوضى في مكان يحتفي بالرتابة .. هذا لو كان المنتج ذكوريا فكيف بالمنتج النسوي وتشكلاته في وعينا السسيولوجي وما يحيط به من تابوهات متراكبة ومسيجة على نفسها بنفسها مما يحيل الكاتبة أحيانا لتقمص جنس مغاير فتغامر بتذكير المتكلم على عادة الكتابة في فترات زمنية ماضية  فيضفي عليها مزيدا من النشوة في البوح لموقعتها الجغرافية الوهمية بالقيود بالأعراف ،وإن كان هذا التقمص للأدوار الجنسية مكسور الجرار مكرورا .

          إن احتراف التنصيص يعني القفز بدون مظلة وفرد الأذرع كأجنحة تحتفي بالهواء ، وقوف في حفرة الرجم والتقبيل للحجارة المغمسة بالخطيئة فكلنا بخطايا ولكن خطايانا مدفونة في ذاكرات ممحوة بالفعل الصامت أو الفعل الخائف المتسامح مع الذوات الصامتة والخائفة  ،إلا النصاص فهو كائن بدون صمت أو خوف ..إنه كائن واع لاحترافية الكلام والاختراق كائن معبر ،مهجوس بالنبش والبحث عن الثقوب والبقع ، مسكون بالفضائحيات والبوح والتعرية للذوات وبحسب تعبير الشاعرة خائن بامتياز " خونةٌ بامتياز "ولكنها خيانة تأخذ بعدا معرفيا فلسفيا وجوديا " أنتَ الآن حزينٌ جدًّا و وحيد ، تفترض العالم ، كلُّ العالمِ كرسيٌ واحد _ لا حاجةَ للتثنيةِ الآن _ فالتثنية تتواطأ و الوحدة ضدك "  ..فالنصاص يفكك ذاته بقسوة كجراح يجري عملية لجسده وروحه وهو بكامل وعيه أو كامل هذيانه ،ثم يعيد تضميد أدراج الذات بطريقة مقروءة على شكل نص معبر ،ثم يعيد تشكيلها وخربشتها في روحه ليرتقي بمدى عجرفته على كل الأوهام التي تحيط بكارة ذهنه لعالم مواز لذاته أو عالم مخلوق من ضلعه ،لعالم من الوعي بالجواني والمحيط بتشكل حلولي معرفي .

          النصوص التي تنقشها سلامة ترتقي بأرواحنا لعوالمها وخصوصا النصوص المنتجة في الفترة الأخيرة 2009 فالمتابع للتدرج السلمي يلحظ القفز السريع والمدروس لجمالية الروح النصوصية المتمثلة بالقدرة على الخروج من ثوب النص العفيف للتمسك بعريه الباذخ ..عري الخيانة في وجه الصباح و " رؤية الإخوان وجه الذئب فيما بينهم " وهجسها بالذكريات على المستوى العمودي في حين يتلامح الإخوان تقمص الذئب الوهمي في الصباح اليوسفي تعود تشتغل على المستوى الأفقي في الليل القريب " رتبت ظلَّك لست منتظراً لشمسٍ " المتشكل بالخيانة القديمة بروح معاصرة ،هذا الأمر كفيل بالخروج من فخاخ الروح المأزومة بإطعامها للرمز التاريخي خلوصا للمصالحة مع الذات بالتطهر من الماضي " أنتَ تعرف جيّدًا / لا شيء يعلق في محطات المرايا /لا دمعك المسفوح فوق جنائز الأيام / لا وجهٌ غريبٌ خلته أنتَ " هي تخرج من ماضيها ولا تعلق فيه ، تخرج من مرايا الجمع لمرايا الفرادة الخالصة " ردد إذن : لا القلب قلبي / لا سماؤكم سمائي / وحدي  يناوشني التوتر " لا تحتفي بالمشابهة بقدر التمزيق للثياب البيضاء ولبس الألوان في جنائز الذاكرة ..هي ترسم حلما تحاول الخلوص له بمقدار حروفها الغاصة بالبوح والسرد للحكايا ،محاولة التقاط بعض الحيوات من أبعادها الداخلية ، تتنبه لطريق تسلكه مشجرا بالأسئلة بالماذاءات والكيفات في موكب حلم يتلاشى بالواقع المسور بالقيود .

          محاولة إنتاج بعد واقعي يشبه الحلم الذي يسرد ليعاش ، ويكتب ليشم ويقرأ ..إنها تحتفي بكائناتها ..بكائنها الداخلي المهمش الذي تستدرجه للحلم /الحياة " إذاً لماذا لا تحلمُ ؟ " إنها تنطلق لمجاراة الموت في الحياة وكأنها تتلبس كائنا تائها كما في رواية سليم بركات "موتى مبتدئون " " تتخيل كمن يتذكر / الموتى في بيتٍ واحد  " إنه الهجس بحياة الموتى إنه شغف الوقوع في تجربة الموت أو الخروج منها ،الإطلالة على عالم مستحيل ،ولهذا تختار الليل لتقفز فيه وكما في رواية ياسوتكا تساتسو " الفتاة التي قفزت في الزمن" فهي تحاول القفز في الزمن لتعيد ترتيب الأدراج والأخطاء ،تحاول تقبيل من اشتاقت لهم ورسمهم من جديد على جدرانها الداخلية ،فالقفز في الزمن شبيه بملاطفة الموت في غموضه ويحتاج للحذر في الخطو فتحذِّر " إياك و أن تفسد موتك " إنها على أهبة العبور والعودة في آن واحد ،فهي تقدس هذا النوع من الحياة المبهمة ولهذا تقفز بنوتة جميلة  " الموتى أحياء أكثر من عازفِ عودٍ يحسن تدليل الأوتار  "

          إنها تغامر بالاحتمالات وتقامر بالموت والحياة  " ما قد تبقّى فوق طاولة الحياة نردٌ  /لي في ضمير النرد عهد /أن يضيّع وجهتي / و إذا تصادفنا بيومٍ أن نعاقر نخب خيبتنا سوياً / ثم نلعن بعضنا كالأصدقاء " هي ممسوسة بثنائية الحياة والموت بطريقة غير مدروسة ولنسمها درجة النرد التي تتأنسنه للصداقة وتلعنه للمحبة ،لدرجة تتماس فيها مع فصام روحي فروح للحياة وروح للممات وكأنها تعاقر الكأس مع الموت بحياتها فهي – والعهدة على كذبي – تتواجه مع الفقد والشوق " أ يا مريم ُ لو تدرين /ماذا خلّفَ الشوقُ بفوضاه على روحي " وتحتدم بخيولها مع الفراق والغربة المكانية والوحشة من الواقع الفار بالذات للحلم " لا أستطيع اقتراف كذبة حلمٍ يسكنون به  " وفي زحمة الذكريات تعجن الحزن ويظهر ذلك في تمثلها لمظفر النواب " مو حزن لكن حزين " في حالة استحضاره في اللهجة الدارجة المقاربة للدارج المحلي لما بينهما من ألفة تنصيصية وغربة مشتركة فترفرف خصلة الحلم الحزين في الليل على كتفيها " وحدكَ  من جدّلَ شعرَ الأحلامِ بشرائطِ الليلِ و أرخى على كتفها الحزن " .

هذه أمور تنحو بمتقمصها لعدم القدرة على ارتداء الدور المجتمعي البسيط الأبيض الرتيب ،ويدفعها لملاسنته ومثاقفته بالسيف ،هذه الأمور تدعوها للخروج عليه - أي المجتمع - بجيوشها للتحرر من سطوته وسلطته ،وفي مغامرة لقتله قتلا روحيا في ذاتها ،فإن كان بقوتها وإلا فبأضعف الإيمان وبأضعف أحباب الله والأصدقاء المتمنون والكائن الغائب " العصافير التي فشل قلبكَ بعدِّها على أصابعِ الانتظار لمْ تعدْ إليك/ و بقيت محاصراً بسياجِ وحدتك ، متورطاً بعزلتكَ التي لم تقترفْ من الخطايا إلاك " وكأنها تتناسخ مع روح المعري على قبره " هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد ".. هي تحاول كما أسلفت القفز والقفز ولعلها لن تخيب طويلا ، فعسى أن " يباغتها النبضُ / نبضُ الأماني " بكائن يشغلها بالحضور .

* سلامه جعفر محمد صالح المرهون شاعرة وأديبة سعودية