إلى سيدتي المتمردة مع التقدير

قال لي أحدهم متهجماً : هذا الشخص قد آذاني بالفعل ، فيستحق غضبي ، ويستحق أن لا يشعر بالحب مني ، وكذلك يستحق أي عقاب آخر !  

وقال آخر بصوت متحشرج ساخط : لن أكون أحمقاً مثلك ، فإذا سامحت سيكرر هذا الشخص نفس الفعل الذي ضايقني به مراتٍ ومرات دون أن يكترث بي !! 

بينما عبَّر ثالث عن غضبه قائلاً : الشخص الذي يُقلِّل من شأن ذاته هو الذي يكون على إستعداد للتسامح ، فهذه الدنيا لا تعترف إلاَّ بالقوي . فلا تطلب مني أن أتسامح معه أبداً !!!

وفي مشهد يعلن عن ثورة غاضبة : أوصى أحدهم أن لا يسير آخر خلف جنازته في يوم وفاته وأن لا يحضر مجلس العزاء الذي سيُقام على ( روحه الطاهرة ) !!!!

هذا – مع الأسف – غيضٌ من فيض للأسباب التي تدعو الناس لعدم التسامح ، ليس أثناء الحياة فحسب ، بل حتى بعد الممات - المستعانُ بالله - ولقد أورد الكاتب ( جيرالد جامبولسكي ) في الفصل الرابع من كتابه [ التسامح أعظم علاج على الإطلاق ] عشرين سبباً تدفع الناس لعدم التسامح ، وساق معالجة رصينة تتوافق مع المنظور الإسلامي في القضاء على هذه الآفة الخطيرة التي تدمر النسيج العاطفي للبشر ، وتجعل قلوبهم أكثر من الحجر صلابة ، وقسوة ، وعناداً ، وتمرداً . قال تعالى :﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ  (74) سورة البقرة
 
من هنا فقد أوصى الباري عز وجل بالتسامح ، وحث عليه إبتداءً ، لما له من آثار عظيمه في حياة البشر حيث يمنحهم الإحساس بالحرية ، والأمل ، والطمأنينة ، والسعادة الأبدية ، والحظ العظيم في الدنيا والآخرة . قال تعالى :﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( سورة فصلت 34 - 35) .

فالتسامح له قدرة هائلة على علاج حياتنا الداخلية والخارجية ، فبوسعه أن يغير من الطريقة التي نرى بها أنفسنا والآخرين ، كما بإمكانه أن يغير من كيفية رؤيتنا للعالم ككل ، فهو يُنهي بصفة قاطعة الصراعات الداخلية التي عانى منها الكثيرون منا ، ولا تزال بداخلنا في كل لحظة وفي كل يوم . تكدِّر علينا معيشتنا ، وتفقدنا الإحساس بالسعادة والسلام ، وتجعلنا صيداً سهلاً لكل أنواع الأمراض والآفات النفسية والجسدية . 
  
    
إنَّ التسامح لا يمكن له أن يتحقق إلاَّ إذا إستطعنا أن نكبح جماح ( الأنا ) في ذاتنا ، وعلينا أن نتذكر دائماً أن ( الأنا ) هي جزء من كينونتنا ، وأنه كلما تنامت قدرتنا على إدراكها تحررنا بصورة أكبر ، وأصبحنا أكثر قدرة على إختيار حياة مليئة بالمحبة والسلام . هذه ( الأنا ) قائمة في الأساس على الشعور بالذنب ، والخوف ، واللوم ، وإذا كان علينا إختيار إتباع هذه المبادئ الثلاثة التي تؤمن بها ، فسنجد أنفسنا دائماً في حالة من الصراع ، وسوف يتسرب كل سلام   أو سعادة حصلنا عليها دون أن ندرك ذلك .
 
ومع إدراك عمل ( الأنا ) وطبيعتها التمردية فينبغي أن لا نندهش من أنها لا تؤمن بالتسامح على الإطلاق ، وأنها سوف تبذل جهدها الحثيث لتقنعنا بأن لا أحد في العالم كله يستحق أن يحظى بتسامحنا ، وربما تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بأن تقنعنا بأننا نحن أنفسنا لا نستحق التسامح أيضاً ، فهي أي ( الأنا ) تتمسك دائماً وبقوة بأن الناس يفعلون أشياء لا يجب أن نسامحهم عليها مهما كان لأنهم يقدمون عليها بسبق الإصرار والترصد .

إن ( الأنا ) تؤمن بأنه علينا أن ندافع عن أنفسنا وباستمرار ، وهي تُوصل لنا ذلك من خلال مشاعر سلبية يمكننا إدراكها بسهولة ، فهي تسوِّغ لنا بأن الطريقة الوحيدة لحماية أنفسنا من أذى قد يصيبنا هي أن نعاقب الشخص الآخر بكرهنا له وغضبنا منه ليشعر بوطأة ما ارتكبه من جُرم بحقنا . وهي تظهر لنا بأننا حمقى بل ومجانين إن نحن فكرنا في أن نسامح هذا الشخص الذي هدَّدتنا أفعاله أو سبب لنا الأذى بأي شكل كان . ولن تكتفي بذلك بل سوف تحشد جيشاً من المؤيدين لنا في ردة فعلنا هذه لأنها في غاية الذكاء وتعرف كيف تختار شهودها ، وتمكننا أن نتأكد من حصافة رأيها وصواب قرارها ، وأنها تملك النظر الثاقب الذي يعينها على أن تختار أولئك الشهود والمؤيدين لها بكل دقة وموضوعية .

هذه ( الأنا المتمردة ) المليئة بالمتناقضات الكبيرة تحتاج منا أن ندرك حقيقتها وأن لا نترك لها الحبل على الغارب تفعل بنا ما تريد ، ونلبي لها ما تشاء . إنني مثلك عزيزي القارئ أتهيَّب آلاف المرات أن أعصي أوامرها أو أن أخرج على مشورتها ، أو أن أتجاهل نصائحها ولكنني أدعوك ونفسي أن لا نستسلم لعنادها ، وأن لا نتجاوب مع مقترحاتها التي تفرضها علينا تحت شعارات تبدو برَّاقة وجذابة ومُقنعة كالمحافظة على كرامتنا ، وعدم المساس بهيبتنا الإجتماعية ، ولكنها في حقيقة الأمر تباعد بيننا وبين الآخرين ، وتوسِّع الفجوة فيما بيننا وبينهم وتبعدنا عن بعضنا البعض وعن إنسجامنا الروحي مع الآخرين حتى نكاد لا نملك صديقاً ولا صاحباً مما يتسبب في إيلامنا ، ويمنعنا من الإحساس بالسلام الداخلي ما حيينا . والسلام .        

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 6
1
فائق المرهون
[ السعودية - ام الحمام ]: 31 / 12 / 2009م - 12:24 ص
الأستاذ ابراهيم / وفقه الله
إن لغة الأنا ضاربة جذورها في العمق التاريخي والموروث الثقافي لدى أبناء اللغة العربية , فكلمة (نحن) و (أنا) تتقدم على كل الجمل المفيدة منها والغير مفيدة في هذا المخزون الفكري المؤدلج , فماذا يمكن أن يكون أفراده الذين نشئوا عليه غير هذا ؟
إن ذهبت لدور العبادة سمعت نحن ! وإن ذهبت لمراكز التعليم سمعت نحن ! وإن قرأت أو سمعت وسائل الإعلام خرجت نحن !
ماأحوجنا لصياغة فكرية جديدة تسبق اللغوية لاتلغي ثوابتا بقدر ما تؤسس لنشء تكون ثمرته التعايش البناء والتسامح والمصالحة مع النفس .
أستاذ ابراهيم _ كنت جراحا ماهرا بمبضعك حين وضعته على الألم , كما كان قلمك الثمين صاحبا لك لايخون , دمت بالمسرات .
2
ابراهيم بن علي الشيخ
31 / 12 / 2009م - 8:36 ص
أخي الحبيب الأستاذ : فائق المرهون
هكذا أنت كما أنت متميزاً في مُحياك وفكرك الذي تعكسه مفرداتك بسلاسة وإقتدار ، الشعور ( بالنحن ) مطلوب ، ولكن أن يذوب هذا الشعور تحت وطأة وجبروت ( الأنا ) المتورمة ، سواء أكانت معبرة عن ذات فرد أم جماعة فتلك هي الكارثة . أصارحك القول بأنني أعاني من ألمٍ عميق عندما أجد شخصاً يستعصي على التسامح ، أو فهم الآخر على أقل تقدير . وكأن ذلك منافياً للرجولة . شكراً على تواصلك الأنيق . تحياتي .
3
المستقل
[ ام الحمام - القطيف ]: 31 / 12 / 2009م - 11:53 ص
الأستاذ الغالي: أبوعلي / أعزه الله
دائما أنت تساهم بوعيك و نظرتك الثاقبة و تشخيصك لكثير من الأمراض الاجتماعية المستشرية في مجتمعاتنا من خلال مقالاتك أو توجيهاتك أن أعيد حساباتي من جديد مع نفسي لعلي أجد عونا من خلال توجيهاتك للتخلص من هذا الداء أو داك.
الشخصية المضطربة هي التي لا تعرف التسامح و لا تشعر بحلاوة العفو و الصفح و نسيان الاساءه و كم هو جميل أن يكون الإنسان متسامحا متأسيا بأخلاق أهل البيت حتى يشعر بالاستقرار النفسي و كما قال تعالى: ( و إن تعفو أقرب للتقوى ) .و أكتفي في مداخلتي بهذا المقطع الجميل من دعاء مكارم الأخلاق ففيه شفاء لهذا الداء :
( اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَدِّدْنى لاَِنْ اُعارِضَ مَنْ غَشَّنى بِالنُّصْحِ وَاَجْزِىَ مَنْ هَجَرَنى بِالْبِرِّوَاُثيبَ مَنْ حَرَمَنى بِالْبَذْلِ وَاُكافِىَ مَنْ قَطَعَنى بِالصِّلَةِ وَاُخالِفَ مَن ِاغْتابَنى اِلى حُسْنِ الذِّكْرِ وَاَنْ اَشْكُرَ الْحَسَنَةَ وَ اُغْضِىَ عَنِ السَّيِّئَةِ ) .
و دمت لنا قلبا متسامحا فأنت من خريجي مدرسة التسامح مدرسة أهل البيت .
4
ابراهيم بن علي الشيخ
31 / 12 / 2009م - 5:03 م
أخي الودود : المستقل
أشكرك على هذه الإضافة التي يتجلى من خلالها إيمانك العميق ، ومشاعرك المرهفة ، ونضجك العاطفي ، وتواضعك الجم . وهنيئاً لك بهذا العقل المتدبر الذي تُحسن إدارته بإستمرار ، فأنت الموفق بين الجماعات ، الحاضن للجميل من المبادرات . جعلني الله عند حُسن ظنك ، ووفقنا جميعاً لنيل رضوانه .
5
منى مفتاح
[ البحرين ]: 2 / 1 / 2010م - 8:11 م
سلام عليكم.الصراع الداخلي في نفس الانسان هو صراع بدأمع خلق الخليقة و مازال.و لكن من ارتقوا بأنفسهم حتى صارت مطمئنة هم من طوعوها و روضوها حتى باتت هي من تحضهم على الخيرات.و ما التعصب و الحنق إلا صورة من صور الصراع الداخلي بين ما هو خير و ما هوشر و للانسان في النهاية حق الاختيار طبقا للكفة التي تفوز بداخله.و هذا الصراع تحكمه عواطفه و قوة الخير بداخله و ظروف بيئته و غيرها عوامل كثيرة تؤثر تأثيرا سلبيا أو إيجابيا بقدر ما يمتلكه منها. أتمنى للأستاذ كل التوفيق لطرح مثل هذه العناوين ذات الوقع و الصدى القوي.
6
ابراهيم بن علي الشيخ
3 / 1 / 2010م - 7:44 ص
الأخت الفاضلة الأستاذه : منى مفتاح
سلام عاطر
كم أنت قديرة في وصف الواقع الذي يختلج في النفس البشرية ، وتحديد العوامل المؤثرة في نشأته وترعرعه خيراً أم شراً . أسأل الباري تعالى أن يوفقنا جميعاً لكبح جماح هذه الذات التي بإستطاعتها أن تسمو فتكون أرفع من الملائكة ، وتهوي فتمسي ( أدنى ) من الحيوان . أعزكم الله وثبتكم على الصواب وسلامي للجميع .
إستشاري سلوك وتطوير موارد بشرية