كربلاء : الإنقلاب على الذات !!

 كانت كربلاء ولا تزال وستبقى كذلك ما بقي الدهر تُمثِّلُ مدرسة للأجيال المتعاقبة ، يتلقون منها الدروس " الخصوصية " ويستلهمون منها العبر ، ففيها تجسدت أروع وأنبل المواقف الإنسانية على مدى التاريخ في مشهد تراجيدي قلَّ نظيره ، إذ على أرضها كانت موقعة الطف التي مثلت مبارزة عظيمة بين قيم الحق والخير والإصلاح والسلام من جهة ، وقيم الشر والفساد والدمار من جهة أُخرى .

 قرأت كربلاء شعراً ونثراً ، توثيقاً ومسرحاً ، تاريخاً وفلسفة وإجتماعاً ، فلم أرى إلاَّ تلك الملحمة الخالدة عبر التاريخ ، إختلفت مناهل الكتّاب ، وتنوعت ألوان المداد ، وتباينت مشاهد الإسقاطات ، قمتُ بتدوير الزوايا في جميع الإتجاهات علَّني أعثر على موضع تناقض أو تنافر بين من قرأتهم من اليقينيين ، وغير اليقينيين ، تعددت مشاربهم ، وتشظت أيديولوجياتهم ، وتخالفت لغتهم ، ولكنهم توحدوا لأنهم " إعتصموا " بالقيم الإنسانية العليا لملحمة الطف الخالدة .

 في خضمِّ هذه الملحمة التاريخية التي رسمت خارطة الطريق للرسالة المحمدية السامية ، ووضعت الأمة على مُفترق طُرق ، وتحديد مصير ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ (144) سورة آل عمران . برزت تحولات ضخمة لا يقوى على إتخاذها والسير فيها وتحمل مخاطرها إلاَّ رجلٌ شهم في وزن " الحر بن يزيد الرياحي " وكما يقولون : ( لكل إنسان نصيب من إسمه ) حيث  جسد أروع نموذج للضمير الإنساني الحي والإرادة الحرة الواعية بانتقاله من خندق الظلام الى ساحة النور ، وخروجه من حياة العبودية الى طريق الأحرار، فأصبح رمزا من الرموز الإنسانية الخالدة ومثالا يُحتذي به في سلوك الإنسان وتمسكه بالقيم العليا والمبادئ المثلى والإنقلاب على الذات .          

  لم يكن " الحر بن يزيد الرياحي " قادراً على القيام بهذا التحول الكبير والموفّق في نمط تفكيره ومعتقداته ، وإعادة تشكيل خارطته الذهنية ، لو أنه تعامل مع ذاته بقدسية وتنزيه متناهيين ، أو أنه أُصيب بداء النرجسية المقيت والمُهلك . إلاَّ أنه رأى بل وآمن بأهمية ممارسة النقد الذاتي لكونه فضيلة من الفضائل السامية ، وتوفيق ما بعده توفيق لمن إستطاع أن يقهر ذاته ويلوي ذراعها ، وينهرها عن غيها إبتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى .

  فكم نحن بحاجة مُلحّة لإدراك أهمية النقد الذاتي لكونه أحد أهم أسباب التقدم الإنساني عموماً. فالقيام بالمراجعة الدورية للذات ، وتشخيص الأخطاء في الفكر أو في الممارسة أو فيهما معاً وإعطاؤها التكييف الصحيح ، مقدمة ضرورية لإصلاح الوضع الإنساني على هدى مقولات صحيحة ومعايير سليمة لا تشوبها شائبة . أليس كذلك يا أعزائي ؟

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 6
1
المستقل
[ ام الحمام - القطيف ]: 23 / 12 / 2009م - 2:34 م
الأستاذ ألولائي الموفق: أبوعلي
الإنسان بطبعه يعتريه النقص لهذا هو في حاجة لنقذ ذاته حتى يتكامل و هي وسيلة بناء لا هدم و إصلاح لا إفساد و كما قال الرسول ص ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ).
نقد الذات : شعور ايجابي يحدد لك مواطن القوه و الضعف لديك و أعاده لقراءة النفس قراءه صحيحة بشفافية و بدون خداع و بدون أن تلجأ لتبرير أخطاءك كما هو بمثابة السد المنيع للهزيمة النفسية بسبب ترسخ العادات و التقاليد و الأعراف و العلاقات اجتماعيه و حب االوجاهه و التسلط التي استفحلت بداخل النفس و دافع كبير للتخلص من هاجس النرجسية و الكمال و المثالية .
الحر بن يزيد الرياحي أحد المصاديق الكبرى لنقد الذات فقد كان رضي الله عنه من رؤساء و شيوخ الكوفة و من القيادات في معسكر بن زياد و لكنه وقف مع نفسه موقف صدق و قال كلمة الشهيرة ( إني و الله أخير نفسي بين الجنة النار و والله لا اختار على الجنة شيئا و لو قطعت و حرقت ) .
سؤال : هل نحن استوعبنا هذا الدرس من مدرسة كربلاء أم لا زالت كربلاء نعيشها عبرة ( دمعة جاريه ) لا عبره .
و دمت لنا ا حسينيا يدير لنا الدرب مستلهما من كربلاء كيف تنقد ذاتك و تصعد بنفسك الطيبة لدرجات الكمال بركة ألطاف الحسين و عظم لنا و لكم الأجر في هذا المصاب الجلل و كل عام و أنت حسينيا .
2
ابراهيم بن علي الشيخ
24 / 12 / 2009م - 10:11 ص
إلى عيني الثالثة : المستقل
قد يستغرب البعض من مخاطبتك بهذه العبارة ولكن هذا هو واقع الحال ، فأنت غالباً ما تساهم في إعطائي الدفعة القوية التي يحتاج إليها كل مشروع ناشئ ، وتعزيزك الدائم لأي سلوك إيجابي لدى الآخرين أرى فيه فرصاً للإثراء الذاتي والتطوير والتحسين ، شريطة أن يعي الآخرون ذلك ( كما فعل الأخ المتألق الأستاذ : بدر الشبيب ) فشكراً لك يا أيها الحسيني على ذوقك ولطفك ، وهداياك التي لا تُقدّر بثمن .
3
فائق المرهون
[ السعودية - ام الحمام ]: 24 / 12 / 2009م - 5:21 م
الأستاذ ابراهيم / وفقه الله
طرح جنابكم الكريم قضية مهمة وهي مراجعة النفس , ومحاسبتها بل لاضير في التخلي عن أفكار ومعتقدات إذا ثبتت عدم صوابيتها وخروجها عن طريق الجادة , لذلك اعتبرها دعوة رائعة منك نحو العديد من المثقفين والمفكرين المؤدلجين بقناعات معينة للتفكير الجدي فيها , ولاعيب في التخلص منها وأخذ العبرة والعظة من ثناياها , حتى وإن كانت هذه الدعوة ذات صدى ضعيف والسبب كل السبب كما أوضحتم التعالي والنرجسية المفرطة وكما قال احد السياسيين ( أنا أو لاأحد ) !
إن المفكر والمثقف اليوم واقع واقع بين كماشتي التطرف والتحزب وحين يتجاوزهما فقد قفز من حقل ألغام السلطة ووحل النفعية .
بوركت بقدرة القادر , ودمت بعزة المعز .
4
ابراهيم بن علي الشيخ
25 / 12 / 2009م - 2:08 ص
الأخ الفاضل الأستاذ : فائق المرهون
كم أسعد بمداخلتك وتعليقك ، وكم أنت رائعا عندما تصب أفكارك على صفحة الحديث فتنساب حروفاُ تترجم ما استعصى على أخيك بلوغ كنه ، وهذا ما يجعل لما أكتب قيمة عند الفاحصين مثلك ، وكل ما أرجوه هو أن ترتد أفكاري قميصاً يستر بعض عوراتي . أما من أسميته بالمثقف فأرى أنه قد تاه في زحمة الأهداف من حيث لا يددري . بارك الله في قلمك النظيف وفكرك الحصيف .
5
الفاضل
[ القطيف - ام الخمام ]: 29 / 12 / 2009م - 10:47 ص
بسم الله الرحمن الرحيم
المربي الفاضل الاستاذ ابراهيم دامت توفيقاته
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كل موضوع تطرحه يكون لنا درس نتعمله من افكارك النيرة التي نستضيء منها العلم والمعرفة واسمح لي ان اقول لك بأن ما ذكرته هو عين الصواب ولكن المشكلة عندما يراجع منا ذاته ويرى الخطأ فيها تراها من هذه النقطة يبدأ في التغيير أو عدم التغيير والذي يكون في الغالب يرجح الى الرأي الثاني وذلك بسبب المعتقدات والقناعات الشخصية هذا من وجهة نظري وانا اقول اتمنى ان نغير انفسنا وان نتحداها حتى وان واجهتنا الصعوبات لعلنا نصل بأنفسنا يوما إلى الرضا بالذات او القناعة النفسية
تحياتي لك موصولة بالحب والاحترام
6
ابراهيم بن علي الشيخ
30 / 12 / 2009م - 8:05 ص
أخي الموقر : الفاضل
مرحباً بك معلقاً وقارئاً ، وأتفق معك أن العزيمة والإرادة تنقص الكثيرين المتطلعين للإنقلاب على ذاتهم السلبية ، وهذا يعود - حسب ظني - إلى القصور في المعارف الخاصة بإدارة الذات والتغيير الشخصي ، ولكن أخطر ما يكون في هذا الجانب هو " النزعة الشديدة إلى التمحور حول الذات والنرجسية المقيته " أشكرك على ثقتك التي أعتز بها ، متمنياً لك التوفيق ، ومتطلعاً إلى إستمرار تواصلك الجميل .
إستشاري سلوك وتطوير موارد بشرية