التغافل تحفة فنية

«التغافل تحفة فنية نادرة تمنح صاحبها الهدوء النفسي وجرعة من السعادة يتناولها كل حين »!  الكاتب

التغافل ممارسة عقلانية يقوم بها كل ذي لب يستشرف العواقب والنتائج والمآلات التي منشؤها التدقيق في سفاسف الأمور وصغائرها.

والإنسان المتغافل يتغاضى عن التصرفات التي تصدر من الآخرين في المواقف الحياتية في أي موقع يكون فيه طرفا فعالاً وقادرًا على أن يمارس سلوكًا إيجابيًا أو سلبيًا تجاه مَنْ صدر منه ذلك التصرف، لكنه يتغافل بل ويتظاهر بأنه لم يرَ أو يسمع شيئا مع أنه - ربما - يكون هو أكثر مصدر يمكن الوثوق به لرواية ما حدث وبأدق التفاصيل والجزئيات الصغيرة، وهو هنا - أي المتغافل - يمارس صفة «التغابي» والتي تجعل منه بمنأى عما حدث، فهو شاهد لم يرَ شيئا.

عندما تتجسد صفة التغافل في نفس الإنسان فهو بذلك يزاول وسيلة تواصل مع الناس لغتها لا تمت بصلة إلى الحروف والكلمات والجمل ولا البوح أو التصريح، بل التغاضي ومحاولة عدم لفت الانتباه وتجنب إحراج الآخرين، وأقصى تصرف يصدر من المتغافل هو الإيماءات والنظرات الودية الحانية والمرهفة والتي تراعي المشاعر والأحاسيس بأبهى صورها.

إن الإنسان المتغافل - وَيَا له من إنسان! - يمارس هذه الصفة الحضارية الراقية مع أحبائه وذي قرابته وأصدقائه، فهو يتغاضى عن هفواتهم ويغض الطرف عن أخطائهم ولا يتصيد سلبياتهم؛ ويكون هدفه من ذلك كله هو أن يميزهم في التعامل عن غيرهم من الناس، وأن يحافظ على علاقة الود معهم، وهو بسلوكه هذا يرسم مفتاحا حقيقيا ثلاثي الأبعاد يمكِّنه من أن يفتح قلوبهم ويدخلها بخفة ورشاقة، وتكون له مكانة عظيمة في نفوسهم وذاكرتهم.

كم هي رائعة تلك الصفة؟!

إن مارسناها في أمور الحياة التي يحدث فيها النقص والتقصير الإنساني الطبيعي، فممارستها في هذه الظروف أمر محمود ممدوح، لكن يجب علينا التنبه في أنّ ممارسة هذه الصفة في حقوق الله وحدوده من الواجبات والمحرمات والأوامر والنواهي الشرعية هو أمر مذموم معيب، بل غير مقبول إطلاقا ويشوه الصورة الجميلة لهذه الصفة ولا يحقق الفوائد المرجوة منها، كذلك فإن التغافل لا يكون مع الأخطاء المتكررة والتي يمكن إصلاحها وتغييرها، وأيضا لا يمكننا أن نتغافل عن جميع الناس فهذه الصفة - وكما أوضحنا آنفا - لا تمارس إلا مع من تربطنا بهم علاقة ود ومحبة، أما من نصادفهم عرضا في حياتنا في الشارع والمتنزهات وأماكن التسوق وغيرها، فهؤلاء إن بدر منهم سوء تصرف فما علينا إلا أن نمارس معهم صفة التجاهل التي لا تعطيهم قيمة أو وزنا وكأننا لا نراهم وكأنهم غير موجودين، فالتجاهل يعطيهم حجما لا يذكر في عالمنا، وفيه كذلك ازدراء لهم وانتقام راقٍ منهم، وهكذا يكون التصرف مع فقراء الأدب ومعوزي الأخلاق.

وهناك نوع من البشر - ولا أظنهم ينتمون لبني الإنسان - لا يجدي معهم التغافل كمرحلة أولى ولا حتى التجاهل كمرحلة ثانية، بل يتطور الأمر إلى التدخل المباشر بالكلام، فما صدر عنهم من سلوك أو تصرف ربما يغير الحقائق ويبدد الحقوق ويحط من الكرامة، فهنا يتحتم علينا الرد عليهم مع ضبط ألسنتنا وإحكام السيطرة عليها، وبحسب الموقف تكون العبارات، وبحسب المقام يكون المقال.

إذا أردت أن تعيش حياة سعيدة هانئة وهادئة، فيها الرضا النفسي وتقدير الذات، فعليك أن تجرب ممارسة «التغافل»، وستحتظى حينها بالصحة النفسية والجسدية، وستجني ثمارا يانعة طعمها محبة الناس وإجلالهم وإعظامهم. 

ومع مسك الختام نذكر هذه المقولة من كلام الإمام جعفر الصادق : «عَظّموا أقداركم بالتغافل».