بين الغث والسَّمين

نعيش اليوم عصر الانفجار المعلوماتي والثورة التقنية، وباتت الاختراعات التكنولوجية، شئنا أم أبينا، جزءاً من طبيعة حياتنا، وتحولت إلى أن تكون أمراً اعتيادياً، ومن البديهيات المسلم بها في الحياة اليومية، ومن الصعب بل من المستحيل اليوم حضر استخدام منتجاتها، والحجر على ما تتمتع به من إمكانات، بحجة الأصالة والموروث. فتأثيرها وآثارها أصبحت على كل جانب من جوانب الحياة، وأمست تساهم في بلورة التكوين الثقافي للناس، وخصوصاً الأجيال الناشئة والشابة.

إن المنتجات التكنلوجية الحديثة هي منتجات محايدة لها سلبياتها ولها أيضاً ايجابياتها، وذلك حسب الطريقة التي يتم استخدامها، والمجال الذي يتم تطويعها فيه. فالغث والسمين موجود في صلب هذه التكنلوجيا الجديدة، إلا أن الإشكالية الفعلية تكمن في كيفية استخدامها لا في التكنلوجيا ذاتها، وفي المضمون الثقافي الذي تحتويه وتنقله إلى المتلقي. ومن الظلم الحكم عليها بالسلب المطلق، وتحميلها أخطاء استخدامنا غير المنضبط.

فكما تحتوي هذه التكنولوجيا على المعارف والمعلومات ذات القيمة الثقافية الجادة، والتي يمكن أن تساعد في زيادة الوعي، وتوسيع دائرة التفكير، بسبب غزارة المعلومات التي تحتويها، وتنوع مصادرها، وسهولة الحصول عليها، هي أيضاً تحتوي على ما يمكن تسميته بالثقافة التسطيحية ذات البعد النمطي الفارغ القيمة، والتي تهتم بالقشور والمظاهر الجانبية على حساب الجوهر والمضمون.

بيد أن المستخدم لهذه التكنلوجيا عليه بذل الجهد للتمييز بين الغث والسمين بوعيه وثقافته وتفكيره السليم، والاستفادة من الفرص التي توفرها هذه التكنولوجيا للارتقاء بثقافته، من خلال انتقاء معلوماته ببوصلة صحيحة، ومقاييس مضبوطة، والبحث عن الأحسن والمفيد ثقافياً ومعرفياً، والتطلع للأجود والمتميز دائماً.

وعليه «فإن رفع المستوى الثقافي والفكري والعناية بهما يعتبر من أهم مقومات الوعي المبني على الإدراك وزرع الثقة بالنفس حتى لا يصبح الإنسان إمَّعة يقع ضحية لكل ناعق. ذلك أن من يدرك ويعي ما يدور حوله من تفاعلات وأحداث وتحولات وحراك يستطيع التفريق بين الغث والسمين، لأن لديه مستوى مرتفعاً من الوعي يقوده إلى السلوك السليم. وهذا ما يجعل استدراجه، أو خداعة، أو محاولة إقناعه واستمالته لممارسات غير مسؤولة صعباً، لأن مثل هذا الشخص يدرك قبل غيره بسبب وعيه وثقافته وتفكيره السليم أنها تصب في خانة الخروج على القانون، وشق الصف، والانخراط في تبعية الأعداء، وتحقيق مبتغاهم». «1»

وحسبنا هنا التذكير بما أثارته وتثيره العولمة الثقافية من مخاوف، أو تتعرض له من انتقادات في الكثير من المجتمعات الإنسانية، انطلاقاً من تأثيراتها السلبية على الثوابت والأصول والأخلاق والقيم، كونها تسببت في حدوث تغييرات اجتماعية عميقه، وفرضت سلسلة طويلة من التغيرات الكبيرة والمتسارعة، والتي تفاعل معها الناس، أفراداً وجماعات، وانعكست آثارها في ثقافتهم وسلوكهم، بل حتى في التفاصيل الصغيرة من حياتهم اليومية.

غير إن مسألة القديم الثابت، والجديد الوافد، تظل من الإشكاليات التي تلازم الإنسان منذ القدم، كون الجديد عادة ما يستدعي متغيرات جديدة. والإنسان عندما يكون معتاداً على شيء معين فمن الصعب تغييره، لأن هذا التغيير مكلف قيمياً وأخلاقياً وذهنياً ومالياً. فما أن يظهر اختراع تكنولوجي جديد حتى يبرز القلق، وتثار المخاوف من المخاطر الاجتماعية التي يحملها معه، أو التي تصاحبه، كالتجاوزات، والانحرافات الأخلاقية، والعداوات، وتدمير العلاقات الإنسانية، وتقويض المجتمع وهز ثوابته، وهو الأمر الذي يتسبب في إثارة القلق وردود الفعل الاجتماعية، وإثارة الفزع بين الناس من هذا الجديد الذي يقتحم هدوء مجتمعاتهم، ورفع الأصوات رفضاً للقادم الجديد، وهو ما أثارته في حينها، على سبيل المثال، أجهزة الاتصال الحديثة، ووسائط التواصل الاجتماعي.

إلا أنه من المهم تفادي إصدار الأحكام المطلقة مع بروز أي اختراع تكنلوجي جديد. إذ لا ينبغي أن ننظر إلى مثل هذه الاختراعات على أنها سلبية بشكل مطلق، أو إيجابية بشكل مطلق، بل علينا النظر إليها بشكل حيادي، لأن طريقة استخدامنا لهذه الاختراعات هو المعيار الذي يحدد مدى ايجابياتها، أو سلبياتها، ومدى تأثيرها في ثقافتنا وسلوكنا وطريقة تفكيرنا.

إذ يمكن أن تكون هذه الاختراعات سبب للانطواء على الذات، وبث روح الفرقة وإحياء العصبيات، أو وسيلة لارتكاب الأخطاء والمعاصي، ويمكن أن تستغل في نشر وتداول المواد المخلة بالآداب والقيم. كما أنه من جانب آخر يمكن أن تكون وسيلة للسمو بالثقافة والفكر، وتهذيب الأخلاق، وصقل التجارب، ونافذة لنشر الأخلاق والفضيلة والحكمة، والتواصل العائلي والاجتماعي، وتساعد الناس في تعلم الاشياء المفيدة، والقيام بأعمال الخير ومساعدة المحتاجين.

 

1 - التسطيح الثقافي والفكري من أهم أسباب التخلف. حمد بن عبد الله اللحيدان. جريدة الرياض. 11/05/2012