أُكذوبة النخبة

 يشهد العالم من حولنا اليوم في كل طرفة عين الكثير من التحولات الكبرى على غير صعيد وفي غير مجال ، لا سيما في مجال الإعلام ودنيا الإتصال ، حيث تتاح للإنسان إمكانية المشاركة في صنع العالم ، ولا شك أن هذه التحولات الهائلة تطال الثقافة بقدر ما تغير رؤيتنا إلى الفعل الثقافي نفسه . فإذا كان ثمة عالم جديد يتشكل ويُصنع بطريقة مُغايرة ، فذلك يعني بالضرورة ولادة ثقافة جديدة ومختلفة ، هي الأكثر فاعلية في صوغ ما يصنعه البشر بأنفسهم وبمحيطهم الكوني . وبناءً عليه فإن علاقتنا بالعالم والأشياء تتغير بقدر ما تتغير أنظمة الثقافة ورموزها . وبهذا فإن الثقافة برمتها باتت موضعاً لإعادة النظر ، نظراً لإعادة التفكير في دور " الفاعل الثقافي " أو لإعادة ترتيب العلاقة بين هذا الفاعل وسائر الفاعلين الإجتماعيين .

 ومن المثير للدهشة أن " المثقف " بات يُعاني من الهشاشة ولين التأثير بالرغم من فرص الإتصال المتعددة المتاحة أمامه ، قياساً بالدور الهام والخطير الذي من المؤمَّل أن يضطلع به في قيادة التغيير ، وإعادة صياغة وتشكيل الوعي الإجتماعي - على الأقل في مجتمعه المحلي المحيط به – والإنخراط في مشاريع التنوير والتحديث ، أو الإصلاح والتغيير بالوسائل الممكنة التي أنتجها الفكر الإنساني في كل إتجاه . 

 فالمثقفون قد أفرغوا الساحة " للوعاظ  المحترفين ، وغير المحترفين " وأصبحوا آخر من يفكر فيما يحدث ويتشكل ، حتى باتوا هم أنفسهم من المهرولين وراء كل زاعق وناعق وتحولوا إلى مفعولٍ به ثقافياً ، ومواد مستهلكة في سوق تعجُّ بكل جديد عوضاً عن أن يكونوا من المشاركين في الفعل الثقافي نفسه ، بل وتخلوا عن وظيفتهم المعوَّلة عليهم كحراس للقيم والحقوق المتعلقة بالإنسان على كافة الأصعدة . والحال كهذا فقد تقدَّم عليهم طابورٌ من الفنانين ، ومصممي الأزياء ، ونجوم الغناء ، وأبطال الشاشة ، ونجوم الكرة ، وأباطرة المؤسسات الإعلامية ، ورجال الأعمال ، بصفتهم الفاعلين الإجتماعيين في هذا الزمن المُعاش الذي إحتلت الصورة فيه كل الزوايا .    

 هذا الهُزال الثقافي الذي أصاب من هُم " أئمة الفكر " بحيث أظهروا عجزهم أمام هذا السير الجارف من الإنتاج الفكري المتعدد القوالب والأغراض ، ولم يتمكنوا حتى من إثراء مجتمعهم المحلي - وليس أمتهم كما كان يجب أن يكون – حيث لم يستطيعوا أن يبتكروا تركيبات مفهومية يُسهمون من خلالها في تشكيل العالم المعاصر إنطلاقاً من مجال عملهم ونطاق تأثيرهم . 

 وهنا لابد من التركيز على " الممتنعات " بغية تفكيك ما يستوطن ذهن المثقف من البُنى والقوالب والآليات التي ساهمت في حبس الطاقة ، وخنق الإمكان ، وهتك ما يقف وراء العقل من المُسلمات والبداهات التي تحجُب البصيرة وتعيق نشاط الفهم والتشخيص ، وتحُول دون أن يكون المثقف مُبدعاً في مجال الفكر ، منتجاً في حقول المعرفة ، واسع نطاق التأثير .

 لعل من أهم هذه " الممتنعات " هي النرجسية المقيتة التي يحيط بعض المثقفين    أنفسهم بها ، مما يجعلهم في منأى عن ممارسة دورهم الطليعي في ترسيخ الفعل الثقافي ونشر قيم الخير بين الناس . وبهذا السلوك فقد حاصر المثقف نفسه بنفسه عندما صبغ ذاته بالنخبوية ، والإصطفائية ، وبات بعيداً عن نبض المجتمع ، وإرهاصاته اليومية ، وكأنه واقعاً تحت الإقامة الجبرية ، بل هو أشد في هذا عزلة عن الناس وتلمُّس مشاكلهم ومعايشة معاناتهم اليومية . ولا مجال أمام المثقف إذا ما أراد أن يسترد دوره الذي فقده إلاَّ أن يكون صادقاً مع ذاته ، وأن يتحرر من أفكاره التي تقف عائقاً أمام إنصهاره في المجتمع وأن يُحدِّث نفسه بإستمرار بأن لا أفضلية له عن الناس ، وأن التواضع هو تاج العلم ، وكما يقول الشاعر حافظ ابراهيم عام 1910 م واصفاً حال بعض المثقفين في كل عصر وفي كل مكان : 

 لا تحسبنَّ العلم ينفع وحده         ما لم يُتوَّج  ربهُ  بخلاقِ
 كم عالم مدَّ  العلوم  حبائلاً         لوقيعة  وقطيعة  وفراق
 وفقيه قوم ظل يرصد فقهه         لمكيدة أو مستحلّ طلاق


  حيث أن الفكر هو سلاح ذو حدين : فقد يكون أداة كشف وتنوير ، وقد يكون أداة حجب وتضليل ، وإنَّ المرء بقدر ما يوغل في التجريد أو يغرق في التفكير ، ينسلخ عن واقعه المُعاش الذي ينشد التغيير ، أو يتناسى الموجود في مورد العلم به ليتنصل من القيام بالواجب تجاهه .

 إن المثقف الملتصق بمجتمعه هو ذلك " المفكر والأديب " صاحب الفكر الحيويّ والمتجدد ، الذي يبقى على قلقه ويُقيم في توتره المستمر بين الفكرة والحدث ، أو بين النظرية والتطبيق " الممارسة " .

 إن المثقف أيضاً هو : من يُحسن صوغ المشكلات ، لأن مشكلته هي دوماً مع أفكاره . وهو من يعتقد أن توعية المجتمع هي مسؤولية تقع على عاتق أفراد المجتمع ذاته ، بكل قواه وفئاته ، وأنها مهمة يشترك في أدائها جميع الفاعلين الإجتماعيين ، بصرف النظر عن إنتماءاتهم ، وبيئاتهم ، ومواقعهم ، واصطفافاتهم الفكرية والإجتماعية . ولكم تحياتي .

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 4
1
احمد العزيز
[ السعودية - ام الحمام ]: 26 / 11 / 2009م - 1:07 م
الأستاذ ابراهيم / وفقه الله
أولا / كل عام وانتم بألف خير بمناسبة العيد السعيد .
ثانيا / هل نستطيع أن نتناسى أن من الممتنعات أيضا لبروز المثقف ونشر أفكاره بين فئات مجتمعه ( ثقافة الخوف ) والارهاب الفكري المستشر ومحاولة نشر فزاعة الخروج على المنظومة الدينية والتقاليد السائدة ؟
ثالثا / كيف للمثقف أن يلتصق بمجتمعه اجتماعيا وثقافيا وهو في بنيته الفكرية يخالف هذا المشاع , هل يلجأ للتقية الفكرية ؟!
أم يستخدم فن المحاورة والتدرج والتوجيه على شكل دفعات ؟
ومالعمل مع من أسماهم بجدارة جنابكم الوعاظ المحترفين الذين يحركون الغرائز ؟
_تقديري الكبير وتحياتي الثمينة لقلمكم وفكركم , ودمت لنا .
2
ابراهيم بن علي الشيخ
26 / 11 / 2009م - 10:51 م
الأخ الفاضل : الأستاذ أحمد العزيز
أبادلكم التهنئة وجميع القراء الكرام بحلول عيد الأضحى المبارك أعاده الله عليكم وأنتم ترفلون بأثواب الصحة والعافية ، ولست أنفي وجود ثقافة الخوف لدى بعض المثقفين من مخالفة ما أسميته المشاع ، لئلا يتعرض للعقاب من الجماعة ، ولكن المبدعين غالباً ما يسبقون عصرهم ، وعليهم عدم التصادم مع ثقافة المجتمع ، بل إنني أفضل ( الخيار الثاني ) المتمثل في المحاورة والتدرج ،لأن ثقافة القهر والإلزام لا تلبث أن تنهار بعد حين ، أما الوعاظ المحترفين فلهم النصيب الأكبر من إدارة وعي المجتمع ، وعلى المثقف أن يستنهض أدواته لسد جوانب القصور إن وجدت ، بورك فيك متابعاً ومعقباً وناصحاً أيها العزيز . وعليك مني السلام .
3
المستقل
[ ام الحمام - القطيف ]: 28 / 11 / 2009م - 10:13 ص
الأستاذ العزيز أبوعلي:
الساحة الفكرية تمر بمرحلة صراعات فكريه بين الانغلاق و الانفتاح و للأسف الوسطية ضائعة بين اليمين و اليسار . لقد ابتليت الائمة بما يسمون أنفسهم أصحاب الثقافة الاصيله و هم الحماة عن الدين لا يمكن لأذانهم أن تسمع لأي فكر أخر كأنما يمتلكونه من فكر هو قرأن منزل من عند الله لا يقبل النقد . و في الطرف الأخر من يسمون أنفسهم أصحاب الانفتاح حتى أعطاهم انفتاحهم الصلاحية بأن يتطاولوا على المعتقدات الدينية التي لا يمكن المساس بها و تعتبر ثابت لا يتغير و أصبحوا يتلاعبون بالمصطلحات و يسمون الغيرة على الدين بفزاعة الخروج عن المنظومة الدينة . كل ما أتمناه بأن نكون أصحاب فكر وسطي و تكون لدينا ثقافة رصينة تجعلنا متوازنين التفكير لا لليمين و لا لليسار و نكون حذرين من دس السم في العسل . و في الأخير لا يسعني إلا أن أقدم اعتذاري من التأخير في الرد بسبب الانشغال و كل عام و أنت و عائلتك الكريمة و أصحاب الفكر الوسطي بخير و عافيه.
4
ابراهيم بن علي الشيخ
28 / 11 / 2009م - 7:14 م
أخي الفاضل : المستقل
بداية : أشكرك على تهنئتك الرقيقة بالعيد السعيد أعاده الله على الجميع بالخير واليُمن والبركات .

ثانياً : ما أشرت إليه من صراع فكري على الساحة الثقافية لا يمكن نكرانه ، والخاسر الأكبر بطبيعة الحال هو " المجتمع " وهدانا الله وإياهم للصواب .

ثالثاً : إن نقطة التوازن هي ما يحرص على تحقيقه كل رشيد ، والتطرف بكافة أشكاله مذموما عند العقلاء . وأعتقد أنه في كل قالب ثقافي معين هناك من يضعون أنفسهم في برج النخبة ، وهذا مل ينفر الآخرين منهم ويعزلهم عن الفعل الإجتماعي . دمت وسطياً أيها الحبيب . وتقبل تحياتي .
إستشاري سلوك وتطوير موارد بشرية