احترام الرأي الآخر والإنصات له

يبدو أن موضوع الحوار والاختلاف، والرأي والرأي الآخر، يشغل هامشاً لا بأس به من الاهتمام والتفاعل في أوساط مجتمعاتنا، كونها تعاني، على ما يقال، من عجز وضمور في لغة الحوار، ومن غياب مبدأ الحوار وقِيمه في ثقافة المنتمين إليها.

فهي تعاني من جفاف يصعب استنبات نبتت الحوار في أراضيها، وترفض مبدأ القبول بالآخر واحترامه، ولا تمانع في إقصائه، أو إلغائه، أو نفيه، لأن الكثير من مجتمعاتنا تربَّت ونشأت وتثقفت على نفي الرأي الآخر والمخالف، وإلغائه وإقصائه وتهميشه، نتيجة القناعة الذاتية بامتلاك مطلق الحقيقة، وأن الآخرين ليس لهم من الحقيقة حظ أو نصيب، بل هم خارج الحقيقة، أو خارجين عليها، إن لم يكونوا ضد الحقيقة ذاتها.

فكم هي المرات التي يتحول فيها النقاش والحوار حول أي قضايا عامة، إلى سجالات تثور فيها ثائرة المتحاورين، وتفلت أعصابهم منهم، ويسود بينهم الغضب والتوتر، ويتبادل فيها الفرقاء كلمات التعنيف والتوبيخ والنهر والزجر والتهديد والوعيد، حيث يدَّعي كل طرف أنه يمتلك الحقيقة ويحتكرها، بشأن هذه القضية أو تلك من القضايا المختلف حولها، وأن رأيه فيها لا يحتمل الخطأ، ورأي غيره خطأ لا يحتمل الصواب؟

لذلك فإن الارتقاء بلغة الحوار تفرض من جهة احترام الآخر ورأيه وقناعاته، وعدم تهميشه بحجة أنه يحمل ثقافة ورأياً مختلفين، أو أنها لا تتوافق مع الرأي السائد، أو مع رأي هذه الجماعة أو تلك من الجماعات. ومن جهة أخرى فإن آداب الحوار تفرض الإنصات للآخر، والإصغاء لحديثه، وعدم مقاطعته، وسماع رأيه واحترامه.

إلا أن المشكلة على صعيد الواقع تشير إلى وجود حالة من الانقطاع، أو القطيعة، مع لغة الحوار، والتمترس خلف الخنادق العصبوية. بالإضافة إلى وجود حالة من التدني والجفاء في لغة الحوار بين الجماعات أو المكونات الاجتماعية، خصوصاً عندما تدعوها الظروف، أو تطّرها، للجلوس والتحاور، حيث يغلب على حواراتها الاستعراض الخطابي، والمواجهات الساخنة، والمشاجرات الصارخة، وعدم الإصغاء والإنصات للآخر، وكثرة المقاطعات الكلامية.

وغني عن القول بأن الإصغاء إلى الآخَر باهتمام يعد إحدى أفضل الطرق لإظهار الاحترام له، وتكوين صلة إنسانية عميقة معه. فالإصغاء باهتمام يعد جزءاً مهماً في العلاقات الإنسانية. وعندما تصغي لشخص ما بعقلك وكل كيانك، فهذا يبعث له برسالة مضمونها أنك تقدر ما يقوله وتحترمه. لأن كل إنسان بطبيعته يحب التعبير عن رأيه ومشاعره، ويشعر بارتياح حين يجد من يستمع ويصغي إليه.

غير أن البعض يكون أدائه في الحوار استفزازياً، فتراه يندفع في مقاطعة حديث من يتخاطب معه، المرة تلو الأخرى، من دون أن يضبط نفسه، ولا يتيح لغيره فرصة الحديث عن رأيه وأفكاره أو مشاعره، كما أنه يتسرع في ردوده قبل أن يستوعب فكرة الطرف الآخر، ناهيك بأنه لا يبالي في مقاطعته وإرباك تسلسل أفكاره، ومن ثم الشروع في إبداء رأيه هو قبل أن ينتهي الآخر من حديثه.

ولئن كان من الطبيعي أن يهتم كل فرد حين يتحدث، أو يتكلم، أن يُصغي الآخرون إليه، ويستمعوا إلى كلامه، وينصتوا إلى حديثه، إلا أنه في المقابل عليه هو أيضاً أن يستمع إليهم، ويحترم دورهم في الحديث، ويصغي إليهم بانتباه واهتمام، بل عليه مبادرتهم بطرح الأسئلة التي تدلل على أنه يصغي باهتمام لما يقولون، ويساعد المتحدث منهم على التعبير عن أفكاره ومشاعره وأحاسيسه، ناهيك عن الاستفهام عما هو غامض، أو غير مفهوم من الحديث.

وحسبنا هنا القول بأن الإنصات فيه متعة لا تقل عن متعة الكلام، فالبعض يتميز بأسلوبه الجميل في التعبير عن نفسه وأفكاره ومشاعره. وقد تحمل أحاديثه ورواياته معاني ودلالات، أو حقائق ومعارف، كانت غائبة عنا حول موضوع الحوار والنقاش، وتُسلط الضوء على الجوانب الغامضة فيه، ناهيك عن أن الإنصات يمكن أن يفتح مجالاً أكبر للتعرف إلى من نتحاور معه عن قرب، ويساهم في بناء علاقات تواصل جيدة معه.

وعليه كم نحن بحاجة أن نؤكد مرة تلو الأخرى على ضرورة الالتزام بآداب الحديث، والتواضع في الحديث والحوار، وعدم التعالي في الخطاب مع الآخر، والإنصات له بانتباه واهتمام، وإتاحة الفرصة له كي يعبر عن رأيه وأفكاره أو مشاعره، وعدم تسفيه رأيه ومعتقده، مهما اختلفنا معه ولم يعجبنا منطقه ومنطلقه وتفكيره، فهو حر فيما يختار وفيما يعتقد، وعلينا التسليم بحرية اختياره وانتمائه.

كما أنه من الضرورة بمكان التذكير دائماً على أهمية إفساح المجال لأي كان أن يعبر عن رأيه وقناعاته بكل حرية وصراحة، بعيداً عن ضغوط الترهيب والترغيب، وبدون خوف أو وجل، كي يحكي ويقول الجميع قناعاتهم بكل صراحة وشفافية ووضوح، لكي يكون الكل على علم ودراية ومعرفة برأي الآخر وطريقة تفكيره، مهما كانت سعة أو ضيق البيئة الاجتماعية التي نعيش ونتعايش فيها، لينطلق أي حوار بعد ذلك على أساس قاعدة الصراحة والوضوح والشفافية، بعيداً عن محاكمة النواياً والأخذ على التهمة، والتراشق بأقسى الكلمات، والاتهام بالكفر والزندقة والخروج على الدين، وهي التُهم التي أصبحت السلاح الجاهز الذي لا يصوب فقط على الذين تختلف معهم في العقيدة، بل امتد ليشمل من تختلف معهم في الرؤى الفكرية، والفهم الاجتهادي، والمسلك السياسي.

إننا بحاجة إلى تجنب الكلمات والألفاظ التي تثير الشحناء والبغضاء، وان ننتقي من الألفاظ والأقوال ما يقرب القلوب ويدفع غائلة الخلاف. فالكلمة الطيبة عندما تخرج من قائلها المتأدب في الكلام، واللين اللسان، ستكون لصاحبها رصيداً طيباً عند مستمعيه تكسبه حبهم واحترامهم. فالكلمة اللينة، والخطاب الجميل، والذوق العالي في التخاطب، من أنجع الأساليب في استمالة الآخرين الذين يستمعون القول الحسن الرفيق واللين، ويصغون له، ويتبعون أحسنه، بقلوبهم قبل آذانهم، لأن الصوت الرخيم، والكلمات المنتقاة، والهمسات اللطيفة، سرعان ما تخترق الإذن لتصل إلى شغاف القلب، وكلها من صفات وميزات الذين استطاعوا تغيير وجه التاريخ بحسن خلقهم ولين كلامهم.