سيادة : الرقم الأسود

 أستأذنكم أن أبني هذا المقال على الخبر التالي الذي أورده مراسل جريدة الوطن السعودية بمدينة الرياض الأستاذ : مشاري التركي ، وذلك في العدد 3306 ، الصادر يوم الأحد 29 شوال 1430 هـ الموافق 18 أكتوبر 2009 م .
 
 " أكدت هيئة الرقابة والتحقيق أن 34.5% من القضايا الجنائية التي حقق فيها مؤخراً كانت لحالات تتعلق باستغلال النفوذ وإساءة استعمال السلطة الوظيفية، وما ارتبط بذلك من فساد مالي وإداري . ووفقا لتقرير الهيئة الذي اطلعت عليه "الوطن" فإن مجمل القضايا الجنائية التي حقق فيها يصل إلى 1923 قضية، ومن ثم تصل قضايا استغلال النفوذ وإساءة استعمال السلطة إلى 665 قضية . ويتزامن الإعلان عن ذلك مع دراسة مجلس الشورى مؤخرا للإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد والتي صدرت بموجب قرار مجلس الوزراء ، حيث تم اشتراك الكثير من المسؤولين والمعنيين بالشأن العام وقضايا المجتمع في دراستها " .
 
 لا شك إنني شعرت مثلكم بالأسف عند إطلاعي على هذا الخبر ، لا لعدم الإلمام بالتركيبة المعقدة للنفس البشرية ، ولا للتمسك بالمثالية المطلقة ، بل لأننا نتشدق ليل نهار بأننا مسلمون " نُسلم الناس من يدنا ولساننا " وأننا " خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر " وأننا إشتطنا غضباً وإحتجاجاً عندما طالت الرسوم المسيئة في بعض صحف الغرب نبينا ( ص ) وأننا .. وأننا وأننا ... !! ثم نخفق بإمتياز أن نلتزم بأبسط أخلاق من " لنا فيه أسوة حسنة " 

 وأعتقد بأن هذه الإحصائية ما هي إلاَّ غيضٌ من فيض ، لأن المخالفات التي لم تُكتشف  أو لم يُبلَّغ عنها - لمبرر أو لآخر - أكثر بكثير من هذه الإحصائية ( المُبسَّطة ) للفساد الإداري والمالي ، وإلاَّ لما صدر الأمر السامي الكريم بتأسيس " الهيئة الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد " إستشعاراً لما آلت إليه الأمور ، وأن السيل قد بلغ الزُبى . وإن الهدر بكافة أشكاله بات يُهدِّد الكيانات التي أنشأتها الدولة لخدمة الناس ، وتسهيل أمورهم على إمتداد الوطن . بمعنى آخر وكما هو معروفاً في علم الإحصاء ، هناك " رقماً أسوداً " في هذه المشكلة ، وهو يشير الى عدد القضايا المستترة ، مقارنة بالقضايا التي تم رصدها والكشف عنها والقبض على المتورطين فيها ، ومنها جرائم " أصحاب الياقات البيضاء " كما يطلق عليها المختصون في علم الإجتماع الجنائي .                     

 إن ما نراه من سلبيات الإدارات والمؤسسات الحكومية أو حتى الخاصة سببه أمرين الأول : غياب الضمير والأخلاق من العملية الإدارية ، والثاني : عدم تطوير الأداء الإداري والسببين متلازمين ، فغياب الأخلاق من العملية الإدارية يستلزم عدم تطور الأداء في أي مؤسسة، لأن العاملين يحسون بتناقض في معاملتهم ويحسون كذلك بعدم وجود مساواة في الحقوق والواجبات . ومن مظاهر تدني الأخلاق الإدارية الواسطة ، فالواسطة هي تغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة ، كأن يوظف المدير شخصاً ليس بكفء لمنصب هام بسبب قرابته للمدير أو بسبب توسط شخص عزيز على المدير ، والواسطة أيضاً تكون في تسهيل معاملة على حساب معاملات الآخرين ، أو الحصول على خدمة قد لا يستحقها الشخص الحاصل عليها ، والواسطة متعددة الأشكال متغيرة الألوان لا تعرف لها وضعاً ثابتاُ كالحرباء تماماً.

 ومن مظاهر تفشي الفساد الإداري استمرار الروتين ووأد الكفاءات ، أو أي محاولة للتطوير والتغيير ، لأن التطوير أو التغيير قد يُفسد أوضاعاً يستفيد منها أشخاصٌ لهم نفوذهم في المؤسسات ، ومن مصلحتهم بقاء الحال على ما هو عليه ، ليستفيدوا بغير حق من التسهيلات التي توفرها لهم المؤسسة ، والإستفادة من مواردها المختلفة ، وكذلك انعدام الرضى بين الموظفين وتدني نسبة الإنتاجية مما يؤثر بشكل مباشر على اقتصاد البلد ، ولطالما سمعنا عن الإنتاجية في دول مثل اليابان إذ تعد إنتاجيتهم بالساعات يومياً ، بينما إنتاجية العامل والموظف لدينا لا تتعدى الساعة تزيد قليلاً أو تنقص ، وتدني الأداء الإنتاجي أسبابه كثيرة لكنها تكاد تتركز على السببين المذكورين آنفاً، غياب الأخلاق وعدم تطوير الأداء الإداري .

  وللفساد أشكال أخرى أيضاً كوجود صراع بين القيادات الإدارية يجبر أطرافه على استخدام كافة الوسائل الأخلاقية والغير أخلاقية لتحطيم الطرف الآخر أو تغييبه وتحييده ، أو إستخدام إسلوب " الضغط البطيئ " الذي يؤدي غالباً إلى تنازل أحد الأطراف وتقديم استقالته  أو إنسحابه من المواجهة ، والإنكفاء على ذاته ، والرضا بأن يؤدي ما عليه من مسؤوليات دون التدخل في أي شيء آخر قد يمس مصلحة المؤسسة العامة وهو ما يُسمى في إدارة الصراع بـ " إسترتيجية التجنُّب " .

 وبالرغم من إستحداث العديد من البرامج التدريبية التي تستهدف السلوك التنظيمي   والعمل على إيقاظ الضمير الأخلاقي في نفوس موظفي القطاع العام في كافة المستويات الوظيفية الرأسية والأفقية ، والتي منها " أخلاقيات الوظيفة العامة ، وإدارة الصراع في بيئة العمل ، والنزاهة الوظيفية ، وإدارة الذات .. " وغيرها من البرامج التي تعنى بتعزيز التوجه الإيجابي لدى الموظفين ، وترسيخ المبادئ الأخلاقية المستمدة من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف والسنة النبوية المطهرة ، إلاَّ أن النفس البشرية ، والسلوك الإنساني بشكل عام لا يُمكن التعامل معه كما يتم التعامل مع مكونات البيئة الطبيعية ، ووضع قانوناً لا يتغير ، ويحكمها بدقة في جميع الظروف والأوقات هذا بالرغم من محاولات علماء الإنثروبولوجيا محاكاة العلوم الطبيعية في دراساتهم التي تستهدف السلوك الإنساني بصفة عامة . رفقاً بالوطن .

طيّب الله أوقاتكم وإلى اللقاء في المقال القادم بإذنه تعالى .

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 8
1
البحر العميق
5 / 11 / 2009م - 9:59 ص
شكراً على تسليطك الضوء على هذه الآفة التي تنخر في جسد الوطن ( دون رحمة ) وبالرغم من المحاذير التي تحيط بهذا الموضوع إلاَّ أنك تمكنت من تخطي ( حقول الألغام ) بسلام ، وحرفية متناهية ، وهذا ليس بمستغرب على أمثالك ، ولقد ساهم إختيارك الموفق على ما تناولته جريدة الوطن كمدخل للمقال في تعميق الموضوعية ، والبعد عن الشخصنة التي لا تفيد في أغلب الأحيان . إنك بحق ( مثقف ) تتسم بالتوازن الذي يفتقد إليه الكثيرون . وفقك الله حيث شطرت وجهك .
2
المستقل
[ ام الحمام - القطيف ]: 5 / 11 / 2009م - 11:21 ص
استاذي العزيز ابو علي رغم حساسية الموضوع الا انك استطعت ان تصل بالفكره الى بر الامان متخطي كل الحواجز بدون ان تمسها فعدرا فأنا لا اجيد حرفنتك و مهارتك في تعاطيك مع المواضيع الحساسه و سأكتفي بهذا البيت من الشعر و سق عليه ما شئت :
اذا كان رب البيت بالطبل مولع
فشيمة اهل البيت كلهم الطبل
نحن نحتاج الى القدوة الصالحه في كل ما يتعلق بشئوننا الاجتماعيه و العمليه فلا يمكن ان يصلح البيت و رب البيت يمارس الرديله بشتى انواعها من الاختلاس و الرشاوى . فدمت قدوة حسنة تجسد الخير في كل مفصليات حياتك فتقبل فائق احترامي لشخصك الكريم و لفكرك المميز الذي يتصف بالهدوء و الاتزان في الطرح بأمتياز .
3
احمد العزيز
[ السعودية - ام الحمام ]: 5 / 11 / 2009م - 11:32 ص
وماأكثر الأرقام السوداء في عالمنا العربي !!!
بطبيعة الحال الفساد الإداري والوظيفي موجود في كل بقاع العالم , ولكنه يتجلى بحسب التقارير الدولية جل مايتجلى في العالم الثالث , والمدهش ان الصراع السياسي والمصلحي يصل لأن يستخدم طرف هذا السلاح ضد الآخر ثم نجد هذا الطرف نفسه قد غرق في وحل الفساد والنفعية .
لو سقط أصحاب الياقات البيضاء من على ظهور خيولهم لحققنا الكثير في سبيل بناء الانسان المتصالح مع نفسه ومجتمعه والغير الساخط على وطنه !!!
ليستمر قلمك الساحر أستاذ ابراهيم , ولتهنأ هذه الشبكة بك .
بوركت ياعزيزي .
4
ابراهيم بن علي الشيخ
5 / 11 / 2009م - 11:33 ص
الأخ الفاضل : البحر العميق
زادك الله عمقاً ونطقاً ، وأشكرك على ثنائك الذي أسأل الله أن يجعلني عند مستواه ، وكما ذكرت في مداخلتك بأن هذه الآفة مستفحلة في جسد الوطن ، ولكنها ليست بمستعصية إذا ما وُجدت الإرادة للقضاء عليها ، وكما يقول علماء الإدارة والإجتماع ( إن تحديد المشكلة أصعب من إيجاد الحلول لها ) وبما أنه تم تحديد المشكلة فهو نتيجة طردية للإحساس بها ، وهذا هو الأهم في طريق الإصلاح . ولك من ألف تحية على تواصلك الجميل .
5
ابراهيم بن علي الشيخ
5 / 11 / 2009م - 12:34 م
أخي الحبيب : المستقل
كما ذكرت يا عزيزي ، بأنه من مصادر الأخلاق هي توفر ( القدوة الصالحة ) ولكن هذا لا يبرر إستمراء الفساد على أي صعيد ، وأعتقد أن المشكلة تكمن أيضاً في جانبها الآخر في غياب وعي الناس أنفسهم الذين يلبسون ( قبعة ميكافيلي ) لقضاء مصالحهم ، ويساهمون بهذا في تعزيز سلوك الفاسدين ، والمرتشين ، والمزورين ، والسارقين ، وغيرهم من هوامير الأرقام السوداء . شكراً لك على لطفك الدائم معي ، وأتطلع إلى تمتين جسور التواصل ( الثقافي ) معكم . وتقبل مودتي .
6
ابراهيم بن علي الشيخ
5 / 11 / 2009م - 12:55 م
الأخ الوصول : الأستاذ أحمد العزيز
ما ذكرته من تفشي الفساد في العالم العربي حصراً وارد ، نظراً لغياب مبدأ المحاسبة المتمثل في قاعدة ( من أين لك هذا ؟ ) وهذا يمثل جبلاً ضخماً يعيق طريق الإصلاح ، ويساهم في تأخير عملية التحول نحو ( المجتمع المدني ) الذي تبرز ملامحه ثم تختفي بين الحين والآخر ، وكما ذكر أحد الحكماء بأن الإصلاح مثل عملية غسيل الدرج لا تبدأ من الأسفل على الإطلاق . المهم أيها العزيز إن هناك مبادرات إصلاحية مخلصة للقضاء على غول الفساد ، ولكن المقاومة شرسة ولا تتردد في إستخدام جميع الأقنعة للدفاع عن مصالحها والتستر عن الأنظار . المهم أن لا نضيع بوصلة التفاؤل . أشكرك على مداخلتك العميقة ، وأسأل الباري أن يوفقك لكل خير يا وجه الخير .
7
أبوجواد القيصوم
[ أم الحمام - القطيف ]: 6 / 11 / 2009م - 2:13 ص
أستاذي العزيز أبو علي موضوع في منتهى الصراحة والواقعية أتمنى من العزيز القدير أن يحفظك من كل سوء وأضم صوتي مع صوت الأخ أحمد العزيز بأنه هنيئاً لهذه الشبكة بك وبأمثالك ولا حرمنا الله من أطروحاتك وتوجيهاتك تحياتي
8
ابراهيم بن علي الشيخ
6 / 11 / 2009م - 11:02 ص
أخي الحبيب : أبو جواد القيصوم
كم أنا سعيد بتواصلك هذا ، لأن لك زرع قديم بالقلب أرويته بوفائك ، وأشكر الباري أن وفقني للإلتزام بالموضوعية والواقعية - كما ذكرت - أتمنى لك التوفيق في ذريتك الصالحة ، وتقبل مودتي ومحبتي .
إستشاري سلوك وتطوير موارد بشرية