في تجديد الفكر الديني (3)

الدين الإسلامي باعتبار عالميته (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) وباعتبار خاتميته (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) وباعتبار كماله وتماميته (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) لا بد أن يتوفر على آليات تضمن له مرونة الاستجابة لمستجدات المسائل ومستحدثاتها التي تفرضها حاجات الإنسان المتغيرة والتطورات المتلاحقة في مختلف المجالات، بحيث يمكن لأهل الخبرة والاختصاص فيه استنباط موقفه من الأسئلة الجديدة التي لم تكن مطروحة في الماضي أو مورد ابتلاء.

في مجال الطب مثلا استحدثت الكثير من المسائل مثل تشريح جثة المسلم وغير المسلم والتلقيح والحمل الصناعي وإسقاط الجنين وتغيير الجنس والموت الدماغي وزرع الأعضاء والعمليات التجميلية والترقيعية وبيع الدم وشرائه والضمان في الطب. وفي المجال الاقتصادي ظهرت مسائل المصارف والنقود الورقية والتضخم النقدي والبورصات المالية والمعاملات البنكية المختلفة والتجارة الإلكترونية. وفي حقل العبادات استجدت الكثير من المسائل أيضا كأحكام العبادة في المناطق القطبية أو في الفضاء. وفي حقل الاجتماع السياسي طرحت العديد من المسائل حول الوطن والمواطنة واللجوء السياسي وحقوق الأقليات الدينية وغير الدينية وأحكام المعارضة السياسية والسياسة الداخلية والخارجية والدفاعية في الدولة الإسلامية والمسائل المتعلقة بالمسلم وعلاقته بالدولة الوضعية المعاصرة وقوانينها. وفي المجال الفكري انهالت الأسئلة حول الديمقراطية والليبرالية والعلمانية والحرية والمساواة والعدالة وموقف الدين منها.

هذه بعض الأمثلة لأسئلة جديدة فرضت نفسها أمام المعنيين بالتقنين الإسلامي، والذين يرون فيه القدرة العملية على مواكبة المستجدات واستخراج التقنينات المناسبة. وينطلقون في ذلك من انفتاح باب الاجتهاد الذي يسمح للمختصين وفق الضوابط المعمول بها بإنتاج الآراء العلمية الجديدة التي تجيب على تلك الأسئلة، مستنطقين النصوص والأدلة الشرعية، ومستخدمين العديد من آليات المرونة التي يتمتع بها التشريع الإسلامي.

من تلك الآليات تقسيم الأحكام في أحد تقسيماتها إلى ثلاثة: حكم أولي وحكم ثانوي وحكم ولائي أو حكومتي. فالأول يعبر عن رأي الشارع في القضية في الحالات العادية، أما الثاني فهو يلاحظ العناوين الطارئة كالاضطرار والإكراه والعسر والحرج والمرض والتزاحم بين الأهم والمهم، والثالث فهو الصادر من الحاكم الشرعي باعتباره حاكما مراعيا مقتضيات المصلحة العامة. هذا التقسيم يسمح بمرونة كبيرة تستجيب للحالات الطارئة والاستثنائية. فإذا كان الحكم الأولي غير ناظر لمعطيات الواقع المتغيرة لأنه ناظر في الأساس إلى حالة الاستقرار والثبات، فإن الحكم الثانوي ينظر أساسا لموارد الاستثناءات، وهو باب واسع جدا. وكذلك الحكم الولايتي الذي يمكنه أن يضع التشريع المؤقت المناسب انطلاقا من تشخيصه لمصلحة عليا، كما فرض الإمام علي الزكاة على الخيل مؤقتا بسبب الظروف الاقتصادية الاستثنائية.

ومن تلك الآليات أيضا استخدام القواعد الكلية والعمومات المأخوذة من الأدلة المعتبرة في تطبيقها على الموارد الجزئية المتعددة، كتطبيق قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) على عقد التأمين وغيره من العقود المستحدثة. ومنها تغير الحكم استجابة لتغير موضوعه كتحول الميتة إلى تراب، أو القيود المحيطة بالموضوع كالدم الذي أصبحت له منفعة عقلائية معتبرة. ومنها تطبيق ما يسمى بالعناوين المرنة القابلة على مصاديق مختلفة بحسب الزمان والمكان، كانطباق مفهوم البينة الشرعية على البصمة الوراثية DNA لإثبات النسب أو نفيه كما ذهب له بعض الفقهاء. 

هذه بعض الآليات التي ثبت من خلالها استخدامها عمليا قدرتها على الإبداع والتجديد الفقهي والفكري ومواكبة العصر. وهنا نود أن نؤكد أن البحوث الدينية المعاصرة لا زالت تحتاج لمزيد من المناقشات كي تتطور أكثر، كما إن للممارسات والتطبيقات الخارجية والتجربة دورها أيضا في كشف جوانب القوة والقصور مما يجعل التجديد حاجة مستمرة.

شاعر وأديب