الوعي باعتباره مسؤولية ذاتية

سقط أحدهم في حفرة فأراد البعض إنقاذه، فألقوا له حبلاً لكنه رفض الإمساك به، ومد أحدهم يده ليلتقطه من حفرته لكن تلك اليد كانت أقصر من أن تلتقط شخصاً رفض أن يمد يده هو أيضاً ليتم إنقاذه، ثم بدأوا بإلقاء الرمل عليه في تلك الحفرة عله يتسلق فوق ذلك الرمل المتجمع عنده فيخرج منها بسهولة لكنه رفض أيضاً أن يتحرك وترك الرمل يدفنه حياً، أمام هذا الشخص الكثير من فرص النجاة، وأمام الآخرين نفس تلك الفرص، لكنها هنا في هذا المثال مرهونة جميعاً بإرادة الفرد ذاته وتصوراته ورغبته في النجاة.

في أمثلة أخرى قد تجد شخصاً ينجو بجهده الشخصي ورغبته وفاعليته هو دون مساعدة من أحد إطلاقاً متجاوزاً كل المعوقات الموجودة.

وفي غيرها من الأمثلة قد يمكن إنقاذ شخص دون رغبة منه في النجاة ومع إصراره على إهلاك نفسه وهذا قد يحدث كثيراً في قضايا الإنتحار والحوادث المادية المشابهة، ما يؤكد على أهمية دور الآخرين والمجتمع في حياة الإنسان، لكننا في جوانب الوعي والعقلانية والخلاص من أوهام الأيديولوجيات الدينية رغم ذلك التحريض والتأثير الخارجي الممكن وبسبب تعقيدات الواقع التي تنتج غياب الدور الذاتي بل ممارسة ما يضاد المصلحة لعدم انكشافها، بحاجة ماسة حقاً لتحريض الإنسان على قيادة وإدارة مشروع خلاصه بنفسه أو بصيغة أخرى بحاجة لتحريض عقله على الإنعتاق بطريقة ما وببرامج وأدوات يمكن أن تكون مقبولة وصالحة للتقبل والتبني من قبل الفرد أو الأفراد والجماعات المستهدفة، لأن الإرتهان المضل وقرار التبعية العمياء هو قرارٌ ذاتي يتم تبنيه والإصرار عليه، وهو المأزق الحقيقي والقرار الخطير المميت الذي يقرره الإنسان بنفسه بسبب الوهم ويكون به الهلاك.

تصور أننا عدنا للمثال الأول وافترضنا أن من سقط في الحفرة شيعي يعتقد إن من جاؤا لإنقاذه هم نواصب يريدون تعذيبه ثم قتله، أو كان سني يعتقد أنهم روافض جاؤا لتعذيبه وقتله، عندها يمكننا أن نفهم مهما أيقنا وعرفنا أنه كان واهماً لماذا أصر على عدم التعاون معهم حتى لو مات دفناً، وكثيراً ما تحدث مثل هذه المواقف من التوجس السلبي تجاه الآخر المختلف بطريقة أو بأخرى.

وكم حاول التنويريون والمصلحون وكم بذلوا من جهود لإنقاذ وتخليص الآخرين عبر القرون، من تلك الأوهام التي تدمر الوعي البشري الضروري للحياة البشرية الواعية السوية التي تتقلص فيها أو تختفي منها مثل تلك التوجسات والأوهام السلبية السابقة التي تفسد الحياة وتدمرها، والنتيجة كانت معروفة، وهي الكثير الكثير من الرفض والإعراض والصدود بل وإعلان الحرب والتعدي على الإنسان والإنسانية وصولاً حتى لأقسى درجات الوحشية والقتل، والسبب معروف وهو الإتهام والوهم والتجريم وعدم الثقة، للدرجة التي تدفعنا للتعجب والإنبهار بحجم تلك التغيرات الإيجابية النوعية في الأمم المصادمة للموروثات التي غيرت توجهات البشر والتي أحدثها بعض المصلحون والأنبياء.

وقد انتشر مؤخراً في صورة من الصور الفاضحة لبشاعة الجهل والوهم البشري الذي يصعب تغييره رغم بطلانه الواضح، خبر قتل مجموعة بوذية في الهند لإنسان مسلم بسبب شائعة انتشرت عن أكله هو وعائلته للحم البقر، فيا لله وللبشر، كيف بالوهم والسذاجات يرخصون إنسانيتهم وقيمة البشر، ومثل ذلك الكثير الكثير بالطبع من الصراعات الدينية والمذهبية في العالم أجمع وفي مناطقنا العربية والإسلامية، التي تقيم الحواجز وتزرع الأحقاد والفتن وتفتك بالأمم.

إن من الصعب جداً أن ننقذ أحداً لا يريد إنقاذ نفسه، من الصعب جداً أن ننير بصيرة أمة عاشقة للوهم، ومن الصعب جداً أن ننقي التراث لشخص أسير مرتهن لتراثه المحشو بالكثير من الزيف والتلوثات، من الصعب جداً أن نزيح الوهم من أمام عيني شخص لازال مرتبطاً حتى النخاع بالثدي التي أرضعته ولازالت ترضعه حليب الوهم. والتاريخ يثبت أن المهمة عسيرة وليست يسيرة.

لذا نحتاج في ظل معرفتنا بذلك ووعينا بحجم تعقيدات التنوير لأن نبدأ بالإنسان ولأن نتجه للشراكة مع الإنسان، ومن هذا المنطلق فليس غريباً أن نطلق هنا، مع إيماننا بأهمية إستمرار ودور كل جهود التنوير التي تعمل على فضح الأوهام وأثرها، نداءً يطالب الأفراد بتحمل مسؤولية الوعي عبر ممارسة الدور الذاتي في السلوك إلى الوعي بعيداً عن فرض هوية الوعي ومآلاته منا أو من أي أحدٍ على أحد، والمطلب هنا ماثلٌ في شيءٍ بسيطٍ وذاتي، ليست فيه أية إملاءات خارجية تدعوا للريبة والشك والتوجس، ويمكن به أن يساعد الإنسان نفسه في أن تزول من أمام عينيه وبصيرته حواجز الإرتهان للوهم، وحواجز الإرتهان للمألوف والماضي والبيئة المحيطة وبيئة التنشئة، وحواجز التوجس من الآخر المخالف بعيداً عن الحسابات الصحيحة الكاشفة لتوازنات الواقع وموقف المخالف الحقيقي وتنوعاته... الخ، وذلك طبعاً بقدر جد واجتهاد الإنسان وإهتمامه بنفسه وذاته وخلاصها، وهذا الدور البسيط الممتنع نوعاً ما مع الإنغلاق والتكاسل المعتادين الحاضرين في الواقع، هو كسر حواجز منع التفكير الحر، وتجاوز إملاءات تحريم قراءة بعض الكتب والأطروحات والكتابات، والتجاوز للقراءة قراءة منفتحة جادة مستمرة وواسعة تنفتح على مختلف مصادر العقائد والأديان والفلسفات والأفكار وقراءات التاريخ والسياسة... الخ قدر الإمكان، قراءة بحثية متنوعة، قراءة لا يكون غرضها الهجوم على الآخر، بل فهمه وفهم طريقة تفكيره، ولا تتجسد فيها حواجز الهوية والذات، قراءة يلازمها تفكير ونقاش حر عبر برامج فردية وجماعية تخدم ذلك، وذلك في زمن تنوع وتعدد وحرية المعرفة والأفكار ووفرة مصادرها، قراءة تقود للتغيير الذاتي الناتج عن تحمل المسؤولية الملقاة على كاهل الإنسان، لأن الواقع يثبت أن البشر يتحزبون دوماً وينحازون لمصادر معرفة وأنماط معرفة خاصة بهم تضع خطوطاً حمراء يصعب على العقل المقيد تجاوزها بسهولة لأسباب عديدة دينية وغير دينية ما يحجم العقل ويبني حجب المعرفة التي يجب تجاوزها عبر الإنفتاح المطلوب الذي يجب أن ندعوا ونستمر في الدعوة إليه، والذي يسمح لعقولنا بالحركة بحرية في بحار ومحيطات المعرفة والوعي الضخمة.

إن فتح باب هذا البحث الذاتي عن الوعي مهم جداً، والوصول للوعي مهمة تتعلق بذات الفرد قبل أن تتعلق بذات غيره، كما تتعلق مسؤولية الغريق عن ذاته بذاته قبل تعلقها بغير تلك الذات.

هذا النداء يجب أن يكون حاضراً في أذهان الجميع، فنحن غالباً لن نستطيع إنقاذ أحدٍ لا يريد إنقاذ ذاته، شخصٍ قد أصم سمعه وبصره وفؤاده عما يريد أن ينقله له الآخرون من رشدٍ ووعي.