جدل اضطراري

لا يخفى امتعاظ إخوتنا «المتنورين»من الجدل الديني والمذهبي، وكذلك من التبشير بالدين والمذهب «بمعنى نشر الدين والدعوة إليه»، إذ يرونه - أو هكذا يدّعون - ضيقَ أفق ونشاطًا تافهًا يُغفِل الناس عن هموم الأمة ومهمّاتها وقضاياها الكبرى، لأجل نقاشٍ في قضايا التاريخ والغيب لا يسمنُ ولا يُغني من جوع، أي أنهم يرونه إغفالًا للناس بقضايا الماضي عن الحاضر، وبقضايا الغائب - أيضًا - عن الحاضر، ما لا يمثِّل - كما يستنتِجون - إلا استحمارًا واستغفالًا لا يصب - بطبيعة الحال - في صالحهم بل في صالح أعدائهم.

إلا أنهم لا يلتفتون إلى أن قضية التبشير هي نتيجة تلقائية لموقف يتخذه أغلب هؤلاء الممتعظين، بغير التفات إلى تناقضهم عند رفض ملازماته، إذ أن الاندفاع للتبشير والإحساس بأهميته ناتج وملازم للاعتقاد بمرجعية دينية في أمور الحياة العامة، وأقصد تنظيم المجتمع والاقتصاد والسياسة، وبالطبع فإن المرجعية إذا لم تكن دينية، فستكون - بالتعريف - علمانية، ولذلك فلا نقاش مع الإسلاميين في عملية التبشير قبلَ، ولا بعدَ، النقاشِ حول عملية «الأسْلَمَة».

لماذا؟ لأن موقفنا في الأولى «التبشير» هو نتيجة لموقفنا في الثانية «الأسلمة»، فمن يختار الأسلمة سيختار التبشير الديني، ومن يختار «العَلْمَنَة» سيرفضه.

لماذا؟ لأن الدين هنا أصبح إيديلوجيا اجتماعية، أصبح منظومة «معايير» ناظمة لتفكير وسلوك الفرد وموجهة لحياته، وعندما نتكلم عن الفرد والفرد، فإننا نتكلم - بالطبع - عن المجتمع، فالذي لا يختار نظام الدين مشروعًا «= برنامج، project»؛ لن يرى للتبشير الديني تلك الأهمية، أما الذي ينظر إليه كمشروع؛ فسيحاول إقناع الناس به وتشريب وغلغلة مبادئه في نفوسهم.

مبادئه!؟ نعم هي العقائد الدينية، التي ليست شيءً آخر غيرَ قضايا التاريخ والغيب التي بها يبدأ الانقسام الديني ومن ثم الانقسام المذهبي.

أسميناه التبشير أو التنوير أو شيءًا غير ذلك؛ الأمر سيّان، هنا مشروع، وعملية نشره وتثبيته، ألم يهتم فطاحلة الفكر السياسي وفلاسفة الأنوار مثل جون لوك وجان جاك روسو ويكتبوا حول مجتمع الحالة الطبيعة «state of nature» والذي هو مجرد حالة افتراضية تجمع بين كونها غيبًا وكونها تاريخًا!؟ أي أن تلك الجدالات - وفقًا لتلك الحجج الساذجة لإخوتنا «المتنورين» - أسوأ من جدالات المتدينين وأكثر إغفالًا عن الحاضر منها.

المصلحون، والذين يعتبر الإسلاميون أنفسهم منهم، يعرفون - وصحَّ ما يعرفون - أن نجاح المشروع - وبالتالي الإصلاح المنشود لهم - مطَّرِدٌ مع كثرة عدد المقتنعين به والساعين في تحقيقه، ولذا فالإسلاميون يبشرون لدينهم، وبالتالي لمذهبهم.

لماذا لمذهبهم؟ لأن الإسلام - ولا شأن لنا نحن ببقية الأديان - لا يتجلى ويتجسد إلا في مذاهب، والكلام عن إسلام بلا مذاهب لا يعدو إضافة مذهب آخر إلى القائمة، فالإسلام لا يمكن أن ينفصل عن الغيب والتاريخ، فهو حدث تاريخيٌ نُقِلَ إلينا راويًا اتصالًا بالغيب، فستتأثر نظرتنا عن «ماذا يقول الإسلام حقًا؟ » - بالطبع - برؤيتنا الفلسفية «اعتقاداتنا» عن الغيب وعن كيفية اتصاله بالواقع وعن شروطها وملازماتها، كما ستتأثر برؤيتنا للتاريخ - الذي نَقله - وبأحداثه ورجاله، وليست المذاهب العقدية سوى تلك المجموعة الأفكار والاعتقادات حول الغيب والتاريخ.

يهمني أن أنبه هنا على أن أهمية الجدل والتبشير - على فرض تسليمنا بها - لا تستلزم أو تبرر الريبة من المختلف أو العداء له أو انتهاك حقوقه، بل ولا حتى جدالات الشوارع والقنوات أو إكراه المختلفين بالقوة، وإنما تقتصر على تبرير الدعوة إلى نوع من الإقناع بالدين والمذهب، ولكي لا ننسى: على فرض.

أقول هذا لـ«يتفهّم» العلمانيون تبشير الإسلاميين، أما أن يأتي رفض التبشير من أحد الإسلاميين؛ فأنا شخصيًا - مع محاولاتي - لا أتفهّمه!!