وقفة مع فاجعة القديح الاعتراف الحقيقي والقانوني بالمذهب

قال تعالى: «ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا فلايسرف في القتل إنه كان منصورا» - الإسراء.

لايسع كل من عنده أدنى قدر من الإنسانية إلا أن يتعاطف مع ضحايا فاجعة القديح الدامية، حيث استهدف تفجير غادر المؤمنين وهم يؤدون فرض الصلاة في يوم ميلاد سيدهم وسيد الشهداء أبي عبدالله الحسين حيث تضرجت أبدانهم بدماء الشهادة وعرجت أرواح كوكبة طاهرة منهم إلى بأنها في معراجها ووافت سيدها موفية بعهدها معه وأثخنت طائفة أخرى منهم بالجراح، ليسطروا بذلك واحدة من أروع ملاحم التضحية في الثبات على الولاية التي قدمتها المنطقة والتي ما زالت تقدمها منذ أن دخلت في الإسلام طوعًا واختيارا في حياة رسول الله وعاهدته على الوفاء ببيعته والولاية له وللأئمة من أهل بيته وإن حال بينهم وبينه أهل الكفر والضلال، فكان ذلك مصداقا لقوله تعالى «من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا» - الأحزاب.

وإننا إذ نغبط ضحايا تلك الفاجعة وخصوصا شهدائنا الأبرار الذين اختارهم الله وفتح لهم بابًا من أبواب الجنة وجاور بهم أصفياءه، أحياء عند ربهم يرزقون، فهنيئا لهم تلك الشهادة، وهنيئا للجرحى ذلك الأجر العظيم عند الله الذي اختصهم به، ونسال الله أن لايحرمنا من خيرهم وبركاتهم، وأن يثبت قلوبنا وأقدامنا على ما مضوا عليه. كما نسأله أن يتغمد الشهداء بواسع رحمته وأن يجعل في الدرجات العليا من الجنة منازلهم، وأن يمن على جرحانا بالشفاء العاجل، وأن يربط على قلوب ذويهم وفاقديهم وقلوبنا بالصبر والسلوان إنه حسبنا ونعم الوكيل، كما نسأله عزت قدرته أن يعجل ما وعد به المؤمنين والمظلومين من الفرج والنصر لأوليائه وأن يضاعف اللعن ويعجل الانتقام والزوال لأعداء الله ومن كان له يد أو كان سببًا قريباً أو بعيداً في تلك الجريمة النكراء المخزية، فقد ورد في الرواية «يشترك في الظلم ثلاثة: الظالم والمعين على الظلم والراضي بالظلم».

ومن باب أقل الوفاء ورد الإحسان لهولاء الشهداء والجرحى الأبرار، أردنا أن نقف قليلاً مع هذا الحدث الجلل لعلنا نوفي بعض حقه، وليكون لنا معتبرًا كما كان لنا عَبرة ومفتخرًا، لعل الله أن يجعل هذه الدماء الزاكية التي سفكت في جنبه، مناراً ومحطة مضيئة لجميع الأجيال كما قال أمير المؤمنين «جاهدوا تورثوا عزًا»، وهنا لابد من التذكير واستحضار بعض الحقائق:

1⃣ ما وقع من القتل والظلم قد جعله الله سببًا بذاته لرفع الظلم وهيأ له أسباب النصر والظفر كما وعد في كتابه الكريم والله لايخلف الميعاد.

2⃣ لعل ماسطرته المنطقة وبلدة القديح على نحو الخصوص من تناسي تلك الفاجعة وعدم إعلان الحداد وتقديم إظهار الفرح في ذكرى ميلاد سيد الشهداء وأخيه العباس وابنه السجاد ، لهو والله مثال لصدق المودة والوفاء لرسول الله ، «قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى»، والذي يقول: «لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهل بيتي أحب إليه من أهل بيته»، ويقول أيضا: «يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا أولئك منا وإلينا»، كل ذلك سبب من أسباب النصر والظفر لايقل عند الله عن السبب الأول، كما قال أمير المؤمنين سلام الله عليه: «من نصرنا نصره الله، ومن خذلنا خذله الله»، فلا أحزاننا وفجائعنا مهما عظمت ولا أفراحنا مها كبرت وارتبطت بقضية عادلة هي مقدمة على أفراحهم وأحزانهم، ولنا في سيدة الوفاء أم البنين التي لم تكن ترى لأبنائها الأربعة أي منزلة في قبال سيد الشهداء مع أن قضيتهم هي قضيته وهم سادة الشهداء معه، ولو رجع سيدهم سالما لأظهرت الفرح والسرور حتى بقتل أبنائها.

3⃣ مع ما للشهداء من فضل وبر لا يعلوه فضل ولا بر، إلا أننا أمرنا أن نحفظ أنفسنا من القتل والتلف ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وواجبنا كأمة منع تلك الأحداث بكل الوسائل المشروعة والمتاحة قدر الإمكان، ولكي يتم ذلك لابد من تشخيص الأسباب الأساسية الجوهرية «وليست العرضية» التي قادت لمثل ذلك الانحراف الخطير في الفكر بحيث تسول له نفسه أن يظن أنه يتقرب إلى الله بقتل النفس المحترمة بل وهي في أقرب الأحوال لربها في الصلاة وفي أعظم أيام السبوع حرمة، وإذا كانت هنالك عدة أسباب ينبغي تشخيص الجوهري من العرضي منها، وتحديد ما يمكن تغييره مع ما لايمكن، وما يمكن قياس التغيير مما يتعسر ذلك، وما هو محدد يمكن الاتفاق عليه مما هو عام ويصعب تحديده.

وبرأيي فإن هناك أسباب جوهرية بعيدة وقريبة نظرية وعملية، ومن الأسباب البعيدة بعض الأمور التاريخية والفكرية التي لايمكن تغييرها بالقانون ولا بالإجراءات العملية، وإنما يمكن مجابهتها بالفكر والحجة، ولهذا فإن السبيل العملي الأنسب لقطع أو التخفيف من أثر تلك الأسباب البعيدة هو في إطلاق حرية النقد لتلك الأسباب وتشجيع ذلك بالوسائل الإعلامية المختلفة، لأن القانون لا يواجه أو يغير الفكر وإنما يحكم الممارسات العملية، وإنما يتغير الفكر تدريجيًا بالحجة والبرهان، وقد ورد عن أمير المؤمنين : «إزالة الجبال الراسيات أهون من إزالة القلوب عن مواضعها»، وما نقصده بالأسباب الجوهرية الفكرية هي تلك الأحكام والأفكار التي يلتزم به بعض الطوائف والتي تتضمن التعدي العملي على من يخالفها وهي نادرة وشاذة.

ولا يقصد بذلك المباحث الفقهية والكلامية الموضوعية لدى كل الطوائف الإسلامية والتي تحدد في كل طائفة ضروريات الدين وما يدخل أو يخرج منه، فليس في ذلك أي تحريض أو تعدي فتلك أبحاث موضوعية بحثتها كل الطوائف وما زالت منذ خمسة عشر قرن ولم يكن بحثها مشكلة عملية لا مع طوائف المسلمين ولا مع غير المسلمين طالما ظل في إطار البحث الموضوعي، ونحن كشيعة لا يضرنا أن نتعايش مع من يعتقد أو يطمئن أننا غير مسلمين أو أننا من أهل النار، طالما التزم بحق الاعتراف العملي بحقوق جميع المذاهب على نحو سواء، ولا تلازم بين الأبحاث الموضوعية وبين التعدي على الآخرين، وإلا لما أمكن لغير المسلمين وهم بالملايين من العيش مع المسلمين في بلدانهم.

وهناك سبب جوهري آخر ولكنه عملي وقابل للقياس وبالامكان رفعه وهو الأهم برأيينا، حتى أن بعض فقهاء الطائفة «كالشيخ محمد مهدي شمس الدين قدس الله سره» صرح بذلك مرارًا وفي مناسبات مختلفة وحتى في لقاءاته مع ساسة الدول الخليجية، وبالرغم من وضوح هذا الأمر وأن أغلب مشاكلنا في هذا البلد تتفرع من هذا السبب الجوهري إلا أن كثرة تكرار الأسباب العرضية الثانوية أنست البعض منا أو جعلته يغفل عن هذا السبب الذي هو أحد أسس المشكلة، وهذا السبب هو عدم الاعتراف الحقيقي والقانوني بالمذاهب والطوائف وبالأخص وبدرجة أكبر بالمذهب الشيعي الإثني عشري من قبل الحكومة ونظام الحكم، والمقصود بالاعتراف الحقيقي والقانوني، هو الاعتراف القانوني بكل متعلقات تلك المذاهب ووضع الأساس القانوني الذي يحفظ حقوق كل المذاهب وأتباع تلك المذاهب، وليس المقصود من ذلك الاكتفاء بالتوقيع على المعاهدات الدولية أو الموافقة على بعض مقررات بعض المؤتمرات من دون أدنى اعتراف حقيقي وعملي بطوائف ومكوانات البلد المذهبية، كما لا يقصد بذلك التعامل بمنطق الأمر الواقع من دون تشريع قانوني يقرر ذلك ويحفظه.

وإذا تم ذلك الاعتراف فإن المواطن السعودي ينشأ وهو يعلم أن معه طوائف أخرى تعيش معه وتشاركه في هذا الوطن على حد سواء. وبالتالي لا ينظر بعين الريبة والازدراء العملي لمتعلقات المذاهب الأخرى كالشعائر الدينية والحسينيات ودور العبادة، عندها لاينظر لشعائر الشيعة وحسينياتهم على أنها أمر غريب، وكذلك عندما يصدر بيان رسمي في فاجعة وطنية كمجزرة حسينية الدالوة فإنه يسمي الحسينية باسمها ولا يتجاهل ذلك، كذلك فإن التمييز في شتى مرافق البلد يضمحل تدريجيًا وتلقائيًا كما هو الحال في تجارب الأمم التي كان فيه تمييز ضد فئات من الشعب.

كذلك إذا تم الاعتراف الحقيقي بالمذاهب فإنه لابد من الالتزام الحقيقي بقاعدة «لا احتساب - أي لا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر - في الأمور الخلافية» والتي يجمع عليها المسلمون والتي تدرس في أصول الدعوة حتى في الجامعات السعودية، وبذلك فإن كل طائفة تحدد طريقة إدارتها لشؤونها الدينية، ولا ينبغي لطائفة أن تفرض أحكامها وتقيماتها قسرًا على باقي الطوائف من منطلق الغلبة «لا إكراه في الدين»، لذلك عند الالتزام بتلك القاعدة وعند الاعتراف الحقيقي والقانوني بالمذاهب فإنه لا معنى لهذا الاستخفاف بالمذاهب وإلزام كل طوائف المسلمين بالطريقة السلفية في مختلف الأمور الدينية، كما في تحديد أوقات الصلوات أو في وجوب صلاة الجامعة أو في أحكام القبور والتوسل بالأنبياء والأولياء سواءً في مختلف مناطق المملكة أو في الحرمين الشريفين والآثار والمشعائر الإسلامية فيهما، وهذا لا يتنافى مع المذهب الرسمي للبلد، ففي كل بلد من بلاد المسلمين مذهب رسمي ولكن لايفرض على الناس قسرًا والأديان والطوائف محفوظة الحقوق، بالغًا ما بلغ الاختلاف في ما بينهم.

وهنا أسوق قصة حدثت لي شخصيا توضح إلى أي مدى يتم فيه عدم الاعتراف العملي وتجاهل باقي طوائف المسلمين في هذا البلد، بل في الحرمين التي يؤمها المسلمون جميعاً، فقبل ثلاث سنوات قصدنا زيارة رسول الله في المدينة المنورة وعند زيارة قبر الحمزة عم رسول الله وشهداء أحد رضوان الله عليهم، استوقفنا المحتسب الرسمي الموكل بالمكان وقال لايجوز التوسل إلى الله بالأموات ولا قراءة الزيارة من الكتاب فقلت له أن ذلك أمر خلافي ولا احتساب في الأمور الخلافية وهذا ما تعلمناه، فرد أن ذلك ليس من الأمور الخلافية ويجب الالتزام به، فقلت له أنت تعلم أن هيئة كبار العلماء فيها بعض العلماء من المذهب المالكي وهم يجوزون ذلك، فغضب لذلك الرد وأخذنا للتوقيف في مركز الشرطة، وللأسف فإن الوضع كما هو عليه ليوم الناس هذا بل ربما إزداد تجاهلاً لباقي طوائف المسلمين وليست تلك هي حالة فردية أو تصرف شخصي.

إننا لا نتحدث عن أمور خافية أو غامضة يتم التشهير بها، فكل من عاش في هذا البلد يلحظ هذه الأمور، لذلك ومن منطلق الإخلاص في النصيحة لتحصين البلد، نرى أن عدم الاعتراف الحقيقي والقانوني بباقي طوائف المسلمين في هذا البلد هو أحد الأسباب الجوهرية الأساسية في خلق التوترات والتشنجات الطائفية بل قد تؤدي إلى بروز خطابات التحريض الطائفي، وهي من الأمور التي يمكن للقيمين على هذا البلد تحقيقها كما يمكن قياسها في نفس الوقت، لذلك ومن منطلق الحرص على أمن واستقرار البلد استقرارًا حقيقيًا ومن منطلق شعورنا جميعًا بهذا المصاب الجلل الذي ألمّ بجميع مناطق البلد، أن نعتبر بهذه الفاجعة وأن يكون همنا جميعًا الإخلاص لله في حفظ وصيانة هذا البلد بشكل يحفظ حقوق جميع أفراد وطوائف البلد.

وإنني إذ أوجه هذه النصيحة للجميع أعلم وكما قال أمير المؤمنين سلام الله عليه: «وقد يستفيد الظنة المتنصح»، ولكن في نفس الوقت أعلم وكما قال سلام الله عليه: «إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان أجل ولا يدفعان رزقاً». و«منصور من نصره ومخذول من خذله».

4⃣ إننا لا نغفل التوترات السياسية في المنطقة والدور الفاعل لتلك التوترات في إذكاء التشنجات الطائفية، ولكن وبالرغم من ذلك ينبغي حفظ حرمات الناس لأن ذلك جزء لا يتجزء من صيانة البلد وتحصينها، نعم إن نزع فتيل تلك التوترات ووقف نزيف الدم لهو مما يؤثر إيجابًا في التخفيف من حدة الاستقطاب الطائفي.

5⃣ مما تقدم أعلاه فإن المطالبة بإزالة السبب الجوهري الأساسي القابل للتحقق والذي يتمثل في المطالبة بالاعتراف الحقيقي والقانوي للطائفة ينبغي أن يكون عنوانًا للبيانات والمطالبات بحقوق الطائفة باعتباره أولوية ومقدمة لرفع الحيف والتمييز ولدفع الضرر عن المؤمنين ومقدمة الواجب واجبة، لذلك فجدير بالمتصدين لشأن العام من علماء ونخب المنطقة الالتفات لذلك.

6⃣ إن استحضار أولوية ذلك المطلب عند عامة الناس وفي نفوسهم لا يقل أهمية عن تبنيه من قبل العلماء وذوي الشأن، لأن الله «لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» وهو عنصر أساسي للتغيير، وقد قرأنا مثلا كيف أن قرار تحرير العبيد ورفع التمييز ضدهم الذي أصدره الرئيس الأميركي لينكنغ قد سبق بنحو مائة عام، رفع التمييز الحقيقي ضدهم في ستينات القرن الماضي، وذلك بسبب عدم إدراك وتفاعل السود مع ذلك القرار، ولكن عندما أدركوا وتفاعلوا تم التغيير.

7⃣ حتى مع الاعتراف الحقيقي والقانوني فإنه لايمكن ضمان عدم قيام البعض بمثل تلك الجرائم وخصوصا أن العالم أضحى بلا حدود، ولكن في تلك الخطوة زيادة حقيقة في رصيد تحصين البلد.

«اللهم إنا نعوذ بك أن نعضد ظالمًا أو أن نخذل ملوهفا أو نقول في العلم ماليس لنا بعلم».

ونسال الله العلي القدير أن يترحم على شهدائنا الأبرار وأن يلحقهم بأوليائهم محمد وآله الطاهرين، وأن لايحرمنا أجرهم وبركاتهم، وأن يمن على الجرحى بالشفاء العاجل ويلهم الفاقدين الصبر والسلوان ويعوضهم خيرًا في الدنيا والآخرة، وأن يجعل محايانا محي محمد وآله ومماتنا مماتهم وأن لايفرق بيننا وبينهم طرفة عين أبدًا في الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين.