التدريب وعلامات الاستفهام النقدية

من الجيد والجميل والنافع أيضا، المران على النقد في موضعه؛ لهدف، وبنزاهة، وفي غير معرض للإساءة. فهو، إن جاء بنَّاء، أغنى وحسَّنَ وقوَّم وأثمن وأثمر. علاوة على أنه دليل على اجتهاد الواعي أن يعي، أو يبحث في الآخرين من خلال نقده عن وعي إضافي إلى ما لديه، أو عن وعي تصحيحي لما وصل إليه. إيمانا بالنقد أنه الخطوة التالية والأمينة نحو الأفضل. ومن هذا المنطلق نتناول مقالا نشر حديثا حول واقع التدريب، بعنوان: المحاضرون وتجارة الوهم. للكاتب: علي معين المرهون، بتاريخ: 21 أبريل 2015. عبر نقده نقطيا.

«1» المحاضر غير المدرب

فكما أنه يظهر من المقال التعميم. إذ خلا من استثناء مدرب أو دورة. نجد أن الإشكال يبدأ من عنوان المقال: «المحاضرون» وتجارة الوهم. فقد وردت في المقالة اشتقاقات كثيرة للفاعل «محاضر»، كان آخرها في ختامها، حيث قال: «مخافة الصدام مع من أحبهم وأجلهم من المحاضرين». والفارق كبير بين المحاضرين والمدربين كما لا يخفى على الكاتب.

فالخطابة المفوهة والهائلية في المعلوماتية لا تكفي في التدريب، بينما تكفي للمحاضرة. فأنت، في المقام الأول، مسؤول عن منح مهارات، بينما، في المقام الثاني، لست ملزما. وهذا أمر قيمي، لا يظهر إلا إذا وفقت لمن هو قبل أن يدربك، يطلعك على قيم التدريب الحقيقي. من باب أنه: «من حقك أن تعلم ماذا لك علي. أن تتقن كذا وكذا. لا أن تعلم أنه عليك أن تتقنَ ذا وذا». أما سلوك المحاضر فلا يتعدى التعليم. وفرق شاسع بين المقامين.

لذلك، من يتجه لدورة لا يعلم ما هي حقوقه منها على مدربها، وارد أن يجلس جلسة الملعوب عليهم، لكن ذلك لا يعني قطعا أن جميع المدربين لعوبون.

«2» معايير الحكم بالزيف

القراءة في تاريخ نشأة أي علم، مهما بلغ مقدارها، بغير تخصص فيه وتبحر وضلاعة. لا تمكِّننا من الحكم عليه عموما، فضلا عن الحكم الخصوصي في أجزائه؛ وذلك لتطلب الحكم لمعايير يُبنى عليها، ولحاكم مزكى أن يحكم من خلالها للاتزامه بها. هذه المعايير هي ما تسمى بالمؤهلات، وهذا الحاكم هو من يدعى بالمحقق.

وعليه، يظهر لنا، ضرورة توفر المؤهلات الكافية في المحقق في علم؛ كي يحقق فيه، أولها،  كما عُلم قبل قليل: حصوله على رتبة محقق. وثانيها: جملة من المواصفات، أسميناها بالمؤهلات، لكونها تجعله أهلا أن يطلق أحكاما بالمصداقية أو الزائفية. مثال ذلك: ثبوت الأعلمية، الموضوعية، التوطينية، التشذيب والتهذيب الذاتيين، والأمانة العلمية والخبرات المتراكمة إلى جانب الشهودية والترشيح والتزكية وغيرها الكثير مما يتطلب حكم بهذا المدى وهذه الجذرية.

فهل صفة «زائف» في المقال المعني، جاءت بعد استيفاء ما سبق أم بغير؟ ما هي معايير الحاكم؟ وكيف هو شكل خوارزمية الحكم؟

خاصة وأننا والكاتب نعلم، أن القراءة ليست بالضرورة تدريبا يحولنا إلى مهرة فيما نقرأ؛ لننتقل من العلم بمعلومة، إلى التخصص فيها، ثم الحكم عليها، أو على التوظيفات القادمة من بطنها، أو الحادثة عن طريقها. إذ أقصى ما يمكن، بعد القراءة، عادة أن نكون الأراء. لا أن نطلق أحكاما.

فالثقافة التي نظن أنها تؤخذ بالقراءة قد تطرح بالقراءة أيضا،  ذلك لأنها ليست ما نقرأ. بل هي ما يتحول من علمنا إلى تراث فينا،  يسير معنا،  على شكل سياق ملازم لنا،  وجو عام لكياناتنا ومعاشها في أي بيئة. فليس من السهل مطلقا أن يتحول كتاب بيد قارئ إلى ثقافة فيه.

فرب أخذ بالقراءة جاء لفطرة حب الاستطلاع،  ثم طرح بالقراءة أيضا؛  لتأثر ذاتي: كتضرر بعد تجربة،  أو مؤثر محيطي: كالميل لأحد المفكرين أو الأراء. فمُنع العلم عبر القراءة أن يصير ثقافة.

«3» انحياز التأييد وانحياز عدمه

وما ذكرناه آنفا هو نفسه ما ورد في المقال، بتعبير: انحياز التأييد،  لكنه ممثلٌ عكسا: بانحياز المعارضة. فجرى رفض كل ما قد يثبت عدم زيفية هذه العلوم،  ولو بمقدار ما،  احتمالي على الأقل. مع جمع كل ما يدعم الزيفية.  وتم على أساس ذلك،  رمي كل ما سبقت قراءته. مما ظُنَّ يوما ما أنه نافع وحقيقي وأولى أن يُعامل بانحياز التأييد.  وهذا غياب واضح للحياد المطلوب خلال الحاكمية.

فالمفترض بعد مرحلة كهذه، جاءت بالمصادقة، وقبل نسفها بالمحاربة، أن تمر على الخبير في حياتنا، الذي عيناه عقلنا المرجعي والمدبر، والذي يشكل اطمئناننا العلمي والعملي، كان واحدا أو أكثر، أن يزكي لنا ما يقع بين أيدينا. ما دام هو مرجع الجودة خاصتنا، وأصدق معايرة بالنسبة لنا، وأشرف وأشمل وأنجح وأحب جملة معايير وقيم صادفناها، فاتخذناه لنا مستشارا وحكيما وموجها وجعلناه موضع الثقة والقدوة بالعنوان العام.

  «4» واقعية الإشكال لا تقطع بتعميمه

كما في الاحتيال التجاري فهو وارد، وربما سائد، لكنه ليس مسلك كل مدرب، وإن سلكه مدربون كثر. لذلك قبل البحث عن دورة مفيدة، يجدر البحث عن مدرب أمين، يميز لنا الطيب من الخبيث في مجال اختصاصه.

كذلك الأمر بالنسبة لواقعية الهدف، فهو عموم في غير محله. وعبارة «أنه لا يجب أن تبرمج عقلك وتتصرف كالناجحين لكي تكون ناجحا في مجالهم»، هي عبارة غير دقيقة، لأن سلامة السلوك أن يمنهج. والمنهجة برمجة، ومكمن السلامة ليس في أن تُبرمَج، بل في وفق من تُبرمَج.  والأمر ذاتُ الأمر حيال مثال نيوتن وآينشتاين، حيث لم يحالفه التوفيق. فالأسلوبية في الأداء شيء، والتوكيد الباطني شيء آخر. وكلا المثالين لا ينصران التدريب ولا ينتصران عليه.

أما بخصوص النوع الثاني من الدورات، فأتفق مع الكاتب في أن الأهلية للتدريب بحاجة إلى مواصفات وخصائص، وأن ليس كل بارع في مهنته هو أهل أن يدرب امتهانها. غير أن المقاربة المساقة في المقال، والخاصة بعدد سنوات الدراسة ليست دليلا، كما لا يخفى على الكاتب، على جودة. فالعبرة في المنهج وعدد ساعات الدراسة فعليا، لا في المدى الزمني للدراسة. 

وحول إشكالية غياب المنهج، فهو واقع كما ذكر، وربما هو ناجم عن ضعف أو ثغرات في المعرفة الحقوقية لدى المدرب أو المتدرب أو الاثنين معا، أو من اجتماع لجهل المتدرب وعدم نزاهة المدرب. إذ أن كل الحق لمن يدفع مالا ليعطى علما أن يعطى مصدر العلم.

«5» الغلاء ليس واحدا عند الجميع

أما الأسعار، فنسبية. وليست إشكالا. وهي محل تقدير ونظر كما ذكر الكاتب. فقد ندفع آلافا لمعلومة، ولا شيء لألف معلومة. وقد نحوز أكثر مما دفعنا وقد نخسر فوقه أضعافا مضاعفة. وعماد ذلك مقدار ما لدينا من وعي في مجال التدريب، ومقدار ما لدينا من خبراء أمناء، يأخذوننا لما ينفع دوما. في إطار أننا أولا أن ننتفع، وأنهم أخيرا ولو ما انتفعوا. 

«6» نسبية المدة والأكاديمية والإتجار

أما آخر الإشكاليات، أعني بها: المدة وتجارية الدورات وعدم أكاديميتها، فهذا أمر غير قابل أن يعمم كإشكالية ولا يمكن الحكم فيه. فأن نقرأ عنوانا لدورة نظن إتقانها يستدعي فصلا من الدراسة؛ لا يعني جزما زيف المدرب ودورته أن يؤديها بإتقان في أقل من ذلك.

فغياب المعرفة اليقينية بالمدرب ومادته التدريبية وأسلوبه التدريبي ومقدار ما سيعطي وينفذ، يجعل الحكم على دورة من عنوانها، بغير استعانة بخبير فيها، غير ممكن أبدا. لذلك تظل هذه مجرد إشكالية واردة ومحكومة بعوامل أسبقية ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار قبل القرار بشيء.

وفوق ذلك لا ننسى أنفسنا من الاتهام. ففي مواضع كثيرة نكون المخطئين في الركض تجاه إعلان زائف، بغير تثبت أو وثوق أو استشارة أو اهتمام بالمعايير والقيم والجودة والفائقية والاستحقاق. فنساهم بطريقة أو بأخرى، أن نوفر بيئة تؤتي أكلها لمن تسول له نفسه الاحتيال في هذا المجال. متناسين أن الشك أحيانا، إن جاء في محله وبقدره وبحضور داعيه والخبير فيه وجدواه، هو نعمة وفطنة وسلامة.

وأخيرا، للحق، نقول: أن نقاطا كثيرة مما طرح الكاتب تحدث واقعا، غير أن التعميم مخالف للإنصاف كما هو معلوم. فالتدريب وإن يعاني من إتجار وتنجيم ودجل وخلو من أخلاقيات المهنة لدى العديد ممن هم محسوبون على زمرة المدربين. لا يعني افتقار النطاق التدريبي برمته للمدرب الشريف والنزيه والأمين علما وعملا. ولو خليت خربت. ونسأل الله لنا ولكم علما نافعا مزكى بغير إتجار أو كنز.  وأن يجعلنا وإياكم من الداعين إليه بإذنه.