الشـاهدة الحيّة

من أرضها إنطلقت كلمات حيّرت العالم، فقد كانت أحضانها مأوى لعلي، وقد أراد لها المجد والعلياء، ولكنها كانت عمياء وصماء، فاستبدلت عزّ علي بذل معاوية، وأتاها السبط الأكبر لخاتم الأنبياء يسعى، حاملا في كفيه عزها ورفعتها، ولم تثوب لرشدها!!

في زقاق من أزقة الكوفة، حيث ذلك البيت الطيني، والذي ماتردّد فقير ولا يتيم أبداً في طرق بابه،

كان الشمل العلوي يحزم متاع السفر ومتاع العودة لأرض الوطن، لمدينة محمد.

فقد اختارت الكوفة الذلّ والخنوع، ويالبُئس مااختارت!!

تستحقين ما سيحدث لك من الدواهي، أيتها المدينة الغانية اللعوب، المتقلبة والتي لا تثبت على حال، تهرج وتمرج بمصائر أهلها، وبمقدرات أناسها!!

الشمل العلوي يودّع الكوفة، ويرمق بيوتاتها بنظرة الأسى، ومعه تلك السيدة، فهي الشاهدة على الثورتين، ثورة السلام، وثورة الدم والشاهدة على الهجرتين، هجرة شبّر من الكوفة الغادرة لمدينة السلام عاصمة محمد، وهجرة شبير من مأوى الطريد، البيت العتيق، لكربلاء الحياة، لكربلاء الإنسان.

هكذا أنت يا زينب... قبل عقود من الزمن ذرفت الدموع بصمت حينما شهدت في يثرب رحيل السلام والأمان، الجدّ الأعظم رسول البشرية.

وحين هبّت العاصفة العاتية من أجلاف تشدقوا بالقرب، والذين ما رحموا بنتاَ ثكلى، ولا أخاَ مقصوم الظهر برحيل أخيه، فكُسرت الأضلاع، ولُطمت العين، وغُرز المسمار في صدر العلم والوقار،

وسقط الجنين، ونزف الدم، وقُيد بطل خيبر بقيود الظلم والضغينة، والضلال بعد الرشاد.

وانتفض سيف الثارات الجاهلية، مهشماً رأس الإسلام في ليالي مباركات، فتهدمت أركان الهدى وانفصمت العروة الوثقى.

وها أنتِ يا زينب، ياصبراً تجسد في إمرأة!

أستعدي لنزول الفادح من المُصاب، فقد شاء القدر، أن تتلقف الأيادي السوداء التي لا تشتهي طعاماً ولا شراباً إلا بالجلوس على مائدة دمائكم. ولايلذ لها عيش ولاتقرّ لها عين إلا بآلامكم.

فلعمري، كما شهدت بالأمس تشييع جدك المُصطفى، وإعفاء جدث أمك فاطمة، وطبرة أبيك حيدرا،

ستمسين الشاهدة أيضاً على الطشتين في يثرب والكوفة!!