بيت من حب

قد نهتم كثيرا بتوفير المسكن الراقي، وهو أمر لا غبار عليه إذا كان من الكسب الحلال، لأنه من أسباب السعادة، كما جاء في الحديث عن رسول الله : ”إن من سعادة المرء المسلم: أن يشبهه ولده، والمرأة الجملاء ذات دين، والمركب الهنيء، والمسكن الواسع“.

ولكننا قد نكتشف بعد أن نبذل الجهود المضنية، وننفق المبالغ الضخمة، بخاصة في هذا الزمن الذي يلتهم فيه بناء البيت وديكوراته وتأثيثه ما تقدم من ادخار المرء وما تأخر من عمره؛ قد نكتشف أن البيت الفخم وحده لا يجلب الحب، فالحب واحد من الأشياء التي لا تُشترى «لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُم».

فكم من القصور المشيدة خالية من إكسير الحياة الحقيقي، الذي هو الحب، فهي رائعة المبنى والمظهر، وميتة المعنى والجوهر. وكم من بيوت غاية في البساطة والماديات، ولكنها مفعمة بروح الحب في كل زاوية من زواياها.

«الحب لا يُشترى بالمال» حقيقة قد يغفل عنها الكثيرون، فيقضون أعمارهم لاهثين وراء سعادة لا تأتي، حتى إذا ظن أحدهم أنه بلغ مورد الارتواء «لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا». والحقيقة الأخرى المغفول عنها أيضا أن تأسيس بيوت من حب يحتاج إلى مواد إنشائية من نوع خاص سنأتي على ذكر بعضها اقتباسا من يوميات بيت أُسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان، فكان بالفعل بيتا نموذجيا من حب. وبرغم ذلك، فإن الكثير، وللأسف، يجهل هذا البيت، ولا يكاد يعرف شيئا عن سيدته التي هي سيدة نساء أهل الجنة باتفاق المسلمين.

لم تكن الأمور المادية ذات شأن في تقرير مصير بيت السيدة فاطمة الزهراء، بل كانت البساطة والقناعة والاقتصار على الميسور هي العنوان الأبرز. ولذا كما جاء في الرواية عن الإمام الصادق : ”وكان فراشها إهاب كبش يجعلان الصوف إذا اضطجعا تحت جنوبهما“.

فإذا كان الزوج لا يستطيع توفير الفراش الوثير، فإن ذلك لا يكون عائقا أمام تكوين بيت من حب بالممكن من الأثاث. فالزوجة تراعي ظروف زوجها، وهو يسعى في المقابل لإسعادها وتوفير ما يمكن توفيره في حدود وسعه وطاقته، عملا بقوله تعالى: ”أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ“ وقوله ”لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ“.

لقد ضربت الزهراء أروع أمثلة الحب حين سألها علي : يا فاطمة هل عندك شيء تغذينيه؟ فأجابت بالنفي، فقال لها - كما يروي أبو سعيد الخدري -: ”يا فاطمة ألا كنت أعلمتني فأبغيكم شيئاً؟، فقالت:“ يا أبا الحسن إنّي لأستحي من إلهي أن أكلّف نفسك ما لا تقدر عليه".

كان الاحترام المتبادل مدماكا آخر في بنيان بيت الحب، فهو بيت يخلو من النزاع والصراع والخصام والاختلاف. يتحدث الإمام علي عن حالة الانسجام والوئام التي كانت تسود بيته، وكيف كان مجرد رؤية سيدة البيت تؤثر أثرها الإيجابي الكبير في نفسه. يقول: ”فو الله ما أغضبتها، ولا أكرهتها على أمر، حتى قبضها الله عز وجل، ولا أغضبتني، ولا عصت لي أمراً، ولقد كنت أنظر إليها؛ فتنكشف عني الهموم والأحزان“.

واحد من الأسس الهامة في ذلك البيت كان تقسيم العمل بدقة مع التعاون والتآزر. فعن الإمام الباقر ، قال: ”إن فاطمة ضمنت لعلي عمل البيت والعجين والخبز وقمَّ «أي كنس» البيت، وضمن لها علي ما كان خلف الباب: نقل الحطب، وأن يجئ بالطعام“. فلكل دور محدد متفق عليه.

مداميك أخرى في بيت الحب الفاطمي تمثلت في الصدق والأمانة والموافقة وترك المخالفة والعناد. تقول فاطمة لبعلها علي «عليهما السلام»: ”يا ابن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني“.

بتلك الأسس وغيرها كان بيت السيدة الزهراء بيتا من الحب مثاليا ينبغي أن يُتخَذ نموذجا لكل بيت يسعى للحب الذي لا يشترى.

دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا.

شاعر وأديب