إقـصـاء الآخــرين !

 

 

 

الإقصاء عكس كلمة التقريب ، وفي اللغة يقصي الشئ أي يبعده ،وأقصى الرجل عقله أي شتته وذهب به بعيداً ، والقاصي بعكس الداني ، قال تعالى :﴿ فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) مريم ،أي في مكان بعيد لم يغب عن ناظر القدس، وقال أيضا : وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى (20) القصص ، أي من طرف المدينة ، وسمي المسجد الأقصى بهذا الأسم لأن الله سبحانه وتعالى أقصاه عن أيدي اليهود والنصارى، فلم يتخذوه بيتًا ولا مكانًا لعبادتهم، مع أنهم كانوا حوله، وبالقرب منه ، وليس المعنى السائد على أن المسجد الأقصى سمي بالأقصى؛ لبعده عن المسجد الحرام، وفي كلا الحالتين نستفيد إن معنى الإقصاء هو الأبعاد ، والإقصاء يحمل عدة أوجه ، منها تجاهل الشئ أو أبعاده أو القضاء عليه كلياً ، وعدم الاعتراف به وبوجوده ، وعادة يتصف المقصّي بصفة الأنانية والنرجسية وحب الذات ، والإقصاء سلوك غير مرغوب ومنبوذ اجتماعيا ، والحيوانات الاجتماعية التنظيم لا تعرف لغة الإقصاء ، كمجتمع القردة والطيور ، حتى أصغر المخلوقات كالنحل والنمل ، وسنتحدث قليلاً عن هذه المجتمعات التي لا تتمتع بخاصية العقل البشري ،  والتي لا تحاسب عما تفعل ، وسنركز على أهمية الاعتراف بالآخرين في استمرارية حياتهم الاجتماعية والسياسية .

فمجتمع القردة الكبيرة مثلا ، كإنسان الغاب ( الغوريلا ) يحتوي عل عدة أسر ، كل أسرة تتكون من أب وأم وأثنين أو أقل من الأبناء ، ويربط كل الأسر قائد واحد ووزير ينوب عنه في حالة مرضه أو موته . الغوريلا القائد لا يقصي الآخرين في اتخاذ قراراته ،كتحديد مكان وقوف القافلة ، حيث من عادة مجتمع الغوريلا الترحال البطيء في الغابة بطريقة دائرية للأكل والتكاثر ، لكي تعطى فرصة النمو للأشجار السابقة وللعودة لها مرة أخرى ، وهنا يأتي دور الرئيس أو القائد في تحديد المكان بمشاورة الآخرين وخاصة الإناث منهم ،لأنهم أعرف باحتياجات أبنائهن، وأيضا مشاورة القبائل الأخرى التي تعسكر في نفس المكان .

عند هجرة الطيور الموسمية يقسم السرب إلى عدة دفعات متعاقبة، كل دفعة لها رئيس في المقدمة ، وكل مجموعة تعطي المجموعة التالية فرصة المرور أمامها أو بجانبها أو خلافها ، وتكّون كل دفعة الشكل ثمانية في طيرانها في الجو كرأس السهم الانسيابي ، والسبب هو تقليل ارتداد الهواء الضارب للجناحين ، أي يصد كل طائر قدر من الهواء عن الذي يليه بترك مسافة متساوية بينهم ، ليصبح الهواء المواجه للجناحين أقل بنسبة 10 % ، فيقل الجهد ولا يحتاج الطائر التزود بالماء والغذاء خلال الرحلة ، فيطير لمسافة خمسمائة ميل دون توقف ، ويكون الطائر القائد المناوب في المقدمة ، والذي يعطي الدور لغيره عندما يتعب أو يسقط ويموت ، ويتأكد السرب من تكون ضلعي الرقم ثمانية بنفس العدد والطول ، وفي أثناء الرحلة يبقى في الخلف طائر تقع عليه القرعة أوتوماتيكيا ، فيكون دوره في الاحتياط ، فإذا تخلف أحدهم عن السلسلة هنا أو هناك حل محله ، وكل هذا بالفطرة .

لنتحدث الآن عن صاحب الخلافة في الأرض  " الإنسان "  المستعمر الأول ،الذي يحمل بين طيات جمجمته عقلا جباراً معقد التكوين . فلقد نال الإنسان القسط الأكبر في التكوين الاجتماعي على الأرض ، ونال الدروس التنظيمية والثقافية من الأنبياء والمصلحين ، والذي بعثوا من أجلها ، وهي إتمام مكارم الأخلاق التي بدورها تشذب وتهذب معنى الاعتراف بالآخرين ، لكي يكون عنصراً صالحاً في مجتمعه ، ويعيش بسلام واحترام .

لكن حصل ما لم يحمد عقباه ، فقامت أمم على لغة الإقصاء والإبعاد ،و توارثته من جيل إلى آخر ، حيث مثل الإقصاء نزعة الشر من الأجداد بالتوارث ،وكيف قويت هذه الكلمة ،وأصبحت من القوة كالرحى ، حتى وقعت على جل الأثر ، والفتك بين الشعوب ، وخلق الفتن بين عناصر المجتمع ، وحتى أوجدت حواجز بين أعضاءه ، فكبر الجدار حتى أمتد وطال ، إلى أن فصل بين أمم بعينها ، وحضارات بتاريخها وثقلها ، فرأينا شعوباً حاضرة تقصى أخرى بائدة ، ومذاهب مستحدثة تقصي أخرى أصيلة وذات سيادة ، والسبب حب التملك والنزعة الشرسة التي يخفيها الإنسان سافك الدماء.

هل الإقصاء المسبب الأول للحروب في العالم ؟

نعم مع الأسف ! فلو كان هناك تقريب لوجهات النظر والاعتراف بآراء الآخرين لما رفع سيف هنا أو هناك ، ولا غارت دولة أو مملكة على أخرى ، وهذا هو ديدن الجبابرة القدامى (أخذ الملك بالقوة مهما كانت النتيجة ) حتى بين ممالك الإخوة في أوروبا القديمة لم تسلم منها ، فتناحروا وتهالكوا ، وأهلكوا معهم شعوباً وأمم على أسباب تافهة ، حتى وقف المجتمع الغربي بجميع مذاهبه ولغاته ، يأخذ من الماضي عبرة ومن الحاضر فكرة ، فتناقشوا بجدية ، وخاصة في القرن الماضي ، واتفقوا على مسح كلمة إقصاء من قاموسهم ودستورهم، وركزوا على أول كلمة في ميثاق التعاون مع الناس، وهي ( الاعتراف بالآخرين ) .

الإقصاء لغة قديمة عند العرب ...هل هذا صحيح ؟

هناك نعرات عربية جاهلية قديمة توارثها العرب من أجدادهم حتى بعد دخولهم في الإسلام ، ومن أهمها إقصاء الغير ، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة ، حيث أورثوها للأجيال التي بعدهم ، حتى سببت لهم نخرا وصدعاً في العلاقات البشرية ، فتكبلوا الحروب والكوارث ، التي أتت أكلها الآن في القرن الحادي والعشرين ، واستمرت وستستمر الحروب والمشاكل بين شعـوب العالم ، وخاصة العربية ، ولن تقف عند حد معين حتى يأخذوا جميعهم دورة كاملة في ثقافة الاعتراف بالآخرين   .

قد يقول البعض إنك إنسان متشائم ، فقد بدأت الكلام وأسسته على محور الإقصاء وجعلت التقريب فرعاً في كلامك وطرحك ، وأقول لهذا السائل الكريم ، إنني أردت التركيز على الحبة السوداء داخل الطحين الأبيض لكي يسهل علينا انتشالها ، ولا نضيع وقتاً في تكرار الحديث .

كم تمنيت أن أرى أهل الأرض يعترفون بلغة الاعتراف بالآخرين وبآرائهم ، وأن يتعمقون في فن ثقافة الاعتراف بمن يختلف معك ، والجلوس على طاولة القبول بالطرف الثاني ، وحتى لو كان خاطئاً أو مختلفاً ، وهذا الكلام يندرج حتى داخل الأسرة ، وبين أفراد المجتمع ، وكم أتمنى أن نغرس في أبناءنا حب ثقافة الاعتراف بالآخرين ، والله الذي لا إله إلا هو سوف يأتي عقد وجيل متفاهم يحل مشاكله ببساطة ، ويعترف بثقافة الأخر ، حتى يأتي التقريب بين كل الملل والنحل ، فحتى الله سبحانه بمكانته وعظمته وهو الخالق والمالك لهذا الكون أعطى فرصة لإبليس ليعبر عن رأيه ، ولماذا لم يسجد لأبينا آدم الذي يختلف معه في الرأي والخلقة .

أجمعت كتب السماء .. أعطى الله إبليس الفرصة كي يدلي برأيه .. فماذا عنك  ؟

روائي وباحث اجتماعي