طرق الـ"GPS" بعدد أنفاس الخلائق ولكن


 
"أهل مكة أدرى بشعابها" مثل يستخدم في حياتنا اليومية بكثرة للدلالة على معرفة أهل ذلك المكان ببلدهم أكثر من غيرهم.

يستخدم كذلك لمعرفة أناس من تخصص معين أو ذوي اهتمام معين بموضوعاتهم أكثر من غيرهم.

أصل هذا المثل مرتبط بمكة، لكثرة جبالها وشعابها حتى يجد الزائر نفسه في الأزمان القديمة ضائعاً بين دهاليز مكة وشعابها لكثرتها وتشابهها، بل أن بعضهم كان يقصد جر العدو إلى مكة لإغوائه فيها.

هل بات هذا المثل طي الكتب بعد تطور التقنية؟

ربما بسبب التطور العمراني لم يعد لهذا المثل مكان. فأهل​ مكة​ اليوم باتوا غرباء لما تشهده البلد من تطور عمراني ضخم، فغُيِّرت ملامحها التاريخية، وازدادت الدهاليز وناطحات السحاب. بل زد على ذلك، أن الزائر يشك في نفسه هل أنه في مكة بعد زيارتها بمدة من الزمن لما شهدته من تغيير!

أمثال هذه الأحداث وغيرها ألجأت الإنسان لاختراع نظام تحديد المواقع العالمي "GPS: Global Positioning System". هذا النظام يعد ملكاً لوزارة الدفاع الأمريكية التي كانت تستخدمه للعمليات العسكرية في تحديد مواقع الأهداف، والرادارات، والملاحة البحرية، والجوية. كانت الحاجة هي التي ألجأت الإنسان للتفكير بمثل هذا الإختراع لتوفير الوقت وزيادة الأمان.(١)

كذلك اليوم، هذا النظام يستخدم بشكل يومي من قبل المستخدم العادي -حتى أهل مكة- ليُوفر الوقت، والجهد، والمال للوصول للهدف المنشود.

خرائط تستخدم نظام "GPS" ونظرية التعصب الأعمى:

إن خرائط الشركة الأمريكية جوجل أشهر من نار على علم في هذا المجال. فقد أثبتت ريادتها في هذا المجال بدقة خرائطها بل وكثرة مميزاتها، حتى صار المستخدم العادي لا يعرف إلا خرائط جوجل لسهولة استخدامها.

في العام الماضي 2012 م، فكرت الشركة الأمريكية أبل في الدخول لهذا المضمار ومنافسة شركة جوجل لتحطيمها. فقد قال رئيسها السابق ستيف جوبز في الكتاب الذي يتحدث عن سيرته "لو اقتضى الأمر سألفظ آخر أنفاسي، و سأنفق كل قرش من الـ 40 مليار دولار التي تملكها آبل في المصرف، كي أصحح هذا الخطأ. سوف أدمر أندرويد، لأنه مُنتج مسروق. أنا على استعداد لخوض حرب نووية حرارية من أجل هذا"(٢).

أعلنت أبل بكل ثقة وبهذه السياسة عن استغنائها عن خرائط جوجل في تحديثها (IOS 6)، لكن لعدم خبرتها وقلة اطلاعها وثقتها العمياء في بعض ممثليها وإدارييها، فشلت فشلاً ذريعاً اضطر بعدها رئيسها التنفيذي تيم كوك للاعتذارعن هذا الفشل(٣). هذا الحدث أعتبر من أكثر الأخبار تداولاً العام الماضي، وأثر سلباً على سمعة الشركة وتداولاتها مع ما للشركة من نجاحات مبهرة في العالم التقني؛ إلا أن ذلك لم يعفها من المحاسبة والاعتذارعلناً، ولم تأخذها عزة النفس والإصرار على موقفها -وهو ما يحسب لها-.

نجاح شركة أبل في جوانب تقنية أخرى لم يكن ضرورياً لنجاحها في جانب الخرائط الإلكترونية بل ليت الفشل كان نهاية الطريق وأسوأ نتيجة! فبعد أن أعلنت أبل تخليها تماماً عن خرائط جوجل وأنها تملك خرائط أكثر فعالية طرحتها في تحديثها الجديد، ونتيجة لثقة عملائها ثقة عمياء بها كادت أن تودي بحياة بعضهم -كما نشر في الصحافة الأسترالية- أن حذرت الشرطة من استخدام خرائط أبل لأنها مريعة، حيث قادت هذه الخرائط شباناً إلى الصحاري –بلا ماء ولا طعام- بعيداً عن هدفهم المنشود بسبعين كيلومترا وقد نفذت منهم المؤونة وبقوا بلا طعام ولا ماء لمدة أربع وعشرين ساعة حتى تمكنت الشرطة من العثور عليهم.(٤)

هل نحتاج إلى خرائط عملية في حياتنا؟

وفي سياق الخرائط والأمثال كلنا نسمع بالمثل التالي: "كل الطرق تؤدي إلى روما". أصل هذه المقولة أنه قبل بناء الإمبراطورية الرومانية بدأ الروم باحتلال المناطق القريبة من روما، بيد أن الطرق كانت وعرة ومضللة فعمدوا لتنظيم الطرق وتعبيدها، فتداولوا هذه المقولة لكثرة الطرق المعبدة التي تقود إلى روما.

وفي جانب مشابه آخر، بات البعض يحاول إيجاد طرق يدعي فيها الوصول إلى الله -تعالى- فيقول: أن كل البشر لايمكنه أن يعبد إلا الله! (٥).

والبعض الآخر رفع شعار الطرق إلى الله تعالى على عدد أنفاس الخلائق(٦).

وهذا مما علق عليه آية الله العظمى المرحوم السيد المرعشي النجفي ونفى صحته وأنه مما يقول به المتصوفة (٧). كذلك كونه خلاف صريح القرآن، فالله -سبحانه- فرض دين الإسلام وقال:  ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(٨). فحتى لو آمنت به سبحانه ولم تؤمن برسالة المصطفى محمد –صلى الله عليه وآله- فلن يقبل منك كما هو صريح الآية المباركة.

وهذا المعنى نجده أيضا في حديث السلسلة الذهبية للإمام الرضا -عليه السلام- حيث فيه -كما ينقله المحدث القمي -: عن إسحاق بن راهويه ، قال : لما وافى أبو الحسن الرضا عليه السلام نيسابور وأراد أن يرحل منها إلى المأمون، اجتمع إليه أصحاب الحديث ، فقالوا له: يا ابن رسول الله ترحل عنا ولا تحدثنا بحديث فنستفيده منك؟ وقد كان قعد في العمارية فأطلع رأسه، وقال: سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي، يقول: سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عليهم السلام- يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله-، يقول: سمعت جبرائيل -عليه السلام- يقول: سمعت الله -عزوجل- يقول: (لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن عذابي)، [ قال]: فلما مرت الراحلة نادانا : بشروطها، وأنا من شروطها(٩).

نستخلص من هذا العرض وبقياسه على كافة مجالات الحياة، أن الاطلاع الكامل -في أي مجال- مع القدرة على التصرف في مثل تلك المواقف لهو شيء مطلوب ممن هو متصدي في الساحة. لكن مسؤوليتك أنت -كمتلقي- أن تتحقق وتجرب .. لا أن تصفق فقط. لا تغرنك الشعارات البراقة فتضحي من الأبواق -بحيث لا تعلم- فتكون كما في حديث الإمام علي -عليه السلام- لكميل بن زياد النخعي حيث قال​...


الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق"(١٠).

كذلك لا تنس أن التحديث هو شيء مهم أيضا، فاعتمادك على مصادر مسموعة، أو غير مقننة، أو قديمة فضلا عن اطلاعك على جانب دون آخر لن يعفيك من الوصول إلى ما لا يحمد عقباه. فهذه مسؤوليتك وحدك أيضا.

وكما لنا حاجة في معرفة مواقعنا في هذه الحياة لكي لا نضيع في دهاليزها وكثرة طرقها، ابتكرنا الخرائط الإلكترونية.

كذلك هي الحياة الآخرة –مع فارق التشبيه- فمهما تعددت الخرائط، هنالك خارطة أرادك الله أن تتمسك بها لأن غيرها سيؤدي بك إلى الهلكة حتى وإن أعجبتك شعاراتها! ستجد الكثير يسوق بضاعته على أنها الأفضل عبر الدعايات والأبواق إلا أنه لا تغرنك تلك البضاعة إذا لم تكن في الطريق الواضح المستقيم الذي هو ولاية محمد وآله –صلوات الله عليهم لا الطريق الملتوي المبهر بولايتهم وولاية أعدائهم، وقد يغرك شكلها وبريقها، لكن توقف قليلا لعلك تصل يا صاح.

يقول آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي -دام ظله-: "إن الإمام الحسين -صلوات الله عليه- ويزيد من ناحية الملبس كانا​متشابهين، وكانا يتعممان بالعمامة، لكن من غير الممكن أبدا مقارنة يزيد بالإمام الحسين صلوات الله عليه، فكيف بأن نضعهما جنبا إلى جنب؟! إذن، فمن مسؤولية العلماء أن يفهموا الشباب، وأن يعينوهم على معرفة العلماء، وتمييز الصالح والسليم من المتظاهر بالعلم وبالقداسة"(١١).

ملاحظة: المثال المادي الذي طرحناه في المقدمة لخرائط جوجل هو من باب المثال وإمكانية الاختيار بينها وبين الشركات الأخرى مكفولة وإنما الإشكال كان من باب التعصب الأعمى. أما الخريطة التي أرادها الله تعالى لا خيار لنا في عبادته والتزام أي طريق نبتغيه بل نلتزم بما أراده منا.

(١) ويكيبيديا، http://www.wikipedia.org/
(٢) كتاب السيرة الذاتية لستيف جوبز، والتر ايزاكسون، ص ٦٦٥ (الطبعة الإنجليزية)
(٣) موقع شركة ​أبل، http://goo.gl/vOFvqi​
(٤) البوابة العربية للأخبار التقنية، http://www.aitnews.com/
(٥) التوحيد، مرتضى مطهري، ص ٣٩
(٦) الفتوحات المكية، ابن عربي،ج ٢،ص ٣١٧
(٧) شرح إحقاق الحق، السيد المرعشي، ﺝ١، ﺹ ١٨٣-١٨٥
(٨) آل عمران:٨٥
(٩) الانوار البهية، الشيخ عباس القمي، ص ٢٢٥-٢٢٦
(١٠) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ، ج ٤، ص ٣٥-٣٦
(١١) موقع مؤسسة الرسول الأكرم ،​​ ​http://goo.gl/aCsYti