الحسين ذلك الإنسان لا ريب فيه

 

يلتقي بأعدائه الذين يريدون تسليمه ليزيد حيا أو ميتا؛ كانوا في حالة مزرية من التعب الشديد والإعياء، فقد أنهكهم السير الطويل، وتوحدت مع جفاف أرواحهم أبدانهم التي كانت تبحث عن قطرة ماء. لم يكن لدى الحسين عليه السلام - وهو في تلك الصحراء القاحلة مجدا السير مع أهله وأنصاره – سوى القليل من الماء الذي لا يكاد يكفيهم هم؛ ولكنه الإنسان بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى؛ إنه الإنسان الذي يريده الله بقوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون.
ولأنه كذلك أمر أن يسقى الأعداء وأن ترشف خيولهم ترشيفا.

وفي الطريق أيضا يلتقي بأحد الفرسان الذين يعرفهم؛ يعرض عليه الحسين المشاركة في نصرته لأنها تحقيق لإنسانية الإنسان حين يقف مع الحق ضد الباطل ومع الحرية ضد الاستعباد ومع العدل والإحسان ضد الظلم والقهر والاستبداد؛ ولكن الرجل يخلد إلى الأرض ويضيع على نفسه فرصة التحليق في السماوات العلى؛ ويعرض على الحسين فرسه بدلا من نفسه، ففرسه – كما يقول- فريدة من نوعها لا يسبقها سابق ولا يلحقها لاحق؛ يرفض الحسين هذا العرض الهزيل، فهو يريده أن ينتصر لإنسانيته لا أن ينتصر فرسه لحيوانيته. ومع ذلك يشفق عليه الحسين عليه السلام إذ يخشى عليه سوء العاقبة فيقترح عليه اقتراحا يكشف عن الرحمة التي امتلأ بها قلبه الرؤوف؛ يقترح عليه أن يبتعد ما أمكنه عن ساحة المعركة حتى لا يكون شاهد زور على الواقعة؛ يقول له ناصحا: مهما استطعت أن لا تشهد وقعتنا ولا تسمع واعيتنا . فوالله لا يسمع اليوم واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا الا أكبه الله على منخريه في النار. 

أي إنسان هذا الحسين؟!
وفي ليلة العاشر من المحرم سنة 61 هـ، أي الليلة التي سبقت المعركة، يخاطب القلة القليلة من أنصاره خطابا استثنائيا لا يمكن أن يصدر إلا من مثله؛ خطابا يثني فيه على موقفهم المشرف ويأذن لهم أن ينصرفوا عنه مستورين تحت جنح الليل: هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا . ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله ، فان القوم إنما يطلبوني ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري .

لم يكن يريد أن يبقى معه إلا من يختار البقاء طوعا لا كرها؛ فهل هناك احترام لإرادة الإنسان كهذا الفعل؟!
وفي يوم العاشر من المحرم، وبعد أن استشهد جميع أنصاره، شاهدته أخته زينب يبكي، فسألته عن سبب بكائه؛ فأجابها إجابة الأواه الحليم: أبكي لهؤلاء القوم الذين يدخلون النار بسببي. أي بسبب قتلي.

إنه يبكي على أعدائه الذين حاول بكل ما أوتي أن يحررهم من عبودية الطاغوت وأن يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، ولكنهم أصروا واستكبروا استكبارا. كان يريدهم أن يحققوا إنسانيتهم ولكنهم أبوا إلا أن يكونوا كالأنعام بل أضل سبيلا.
هذا هو الحسين الذي لم تعرفه البشرية بعد بسبب تقصيرها وتقصيرنا. لقد أنفق ميل جبسون ملايين الدولارات ليخرج فيلم ( آلام المسيح ) يعرض فيه الساعات الأخيرة من حياته حسب الرؤية المسيحية، واكتسح الفيلم صالات العرض السينمائية بسبب الإقبال الكبير عليه. وفي حياة الحسين عليه السلام لقطات لا مثيل لها يمكن أن تكون مادة لفيلم بل أفلام تعرض على مستوى العالم ليتعرف الناس على هذه الشخصية الكونية العظيمة، فمتى نقدم الحسين للعالم برؤية سينمائية حديثة؟

نحن نفهم أن الصورة اليوم هي اللغة الأولى على مستوى العالم، ولدينا من الحقائق لا الخيالات ما يمكن أن يوظف سينمائيا ويبهر المشاهد بمعانيه الإنسانية الراقية، لدينا ما يمكن أن يحدث تحولا حقيقيا في عالم اليوم إن أحسنا اكتشاف واستثمار كنوزنا التي دفنها الإهمال طويلا.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 3
1
المستقل
[ ام الحمام - القطيف ]: 26 / 7 / 2009م - 1:52 م
الاستاذ المبجل ابو احمد هكذا انت تنتهز الفرص في كل مناسبة لتؤكد ارتباطك بأهل البيت فها نحن نعيش الذكرى االحسنيه فتعطرها بمقالك الجميل الذي تطرقت من خلاله الى نقطتين مهمتين و هم كالتالي :
*الرحمه الربانيه التي تجلت في الحسين عليه السلام مستشهدا بمواقف متكرره استشهدت بها في مقالك فهل من الانصاف ان نقزم مدرسة الحسين و ثورة الحسين في مجرد قطرة دم سالت و نصر على القيام بشعيره معينه و نتهم من يخالفها حتى و ان كان فقيها انه لا يفقه من الاسلام شيء و يصرح بها على منبر يبث عبر وسائل الاعلام .
* الدور المهم لعرض قضية الامام الحسين من خلال وسائل الاعلام و لكن الاهم من ذلك كيف يمكننا نحن ان نعرض الامام الحسين للاخريت هل من خلال مادة علميه موثقه دقيقه ام مجرد عرض هزيل تعرض من خلالها المأساة في كربلاء

---------------------

تكمله لما سبق : للاسف من خلال متابعتي لما عرض عن الامام الحسين مقتصر فقط للجانب المأساوي في قضية كربلاء كأنما العمر الشريف للامام الحسين لا قيمة فيه فقط نحصر الحسين في هذه الجنبه . الحسين كله رحمه كله وعي على المستوى الانساني و السياسي الحسين الزاهد الحسين العابد الحسين مدرسة تشتمل على مفردات رائعه منذ ولادة حتى استشهاده عمر من العطاء على كل المستويات . و لا يسعني في الاخير الا ان اقدم اعتذاري لهذه المداخله مكررا شكري و تقديري فنحن نستمد الاستمرار من خلال اشعاعاتكم النير التييبعث فينا الحياة .
2
بدر الشبيب
[ أم الحمام - القطيف ]: 27 / 7 / 2009م - 7:50 ص
أخي العزيز الأستاذ المستقل:
أتفق معك أننا نظلم الحسين عليه السلام حين لا نقوم بتعريفه للعالم باعتباره شخصية استثنائية سعت في ظرف استثنائي لتخليص الإنسان وللأبد من كل ما يكبل حريته أو يحط من كرامته و عزته.
أما بالنسبة لما ذكرت من خلاف حول شعيرة من الشعائر؛ فالمسألة لا تعدو كونها في نظري مسألة خلافية فقهية لا ينبغي أن تتحول إلى مواقف اجتماعية، فإذا قال فقيه بطهارة الكتابي وقال آخر بنجاسته فهل نعكس هذا على ممارساتنا الاجتماعية؟
نحتاج إلى وعي أعمق حتى نستوعب الآخر ونتكامل معه.
أشكرك على تواصلك الذي ينفذ إلى عمق الأشياء دائما.
3
المستقل
[ ام الحمام - القطيف ]: 28 / 7 / 2009م - 3:29 م
الاستاذ العزيز ابوأحمد سررت كثير لردك المحترم على تعليقي و اتفق معاك تماما بأن المسألة مسألة فقهية خلافيه و لكن ما يدمي القلب تسيس المسائل الفقهيه و طريقة معالجتها و تصعيدها لاعلى المستويات و يتم التراشق على المنابر الحسينه و عبر الوسائل الاعلاميه و نتهم من يخالفنا الرأي من الفقهاء بأنه لا يفقه من الاسلام شيء . حقيقة عندما سمعت هذا التصريح في الوقت الذي نحتاج بأن نوحد صفوفنا تالمت كثير و جعلني اتأكد بأننا انفعالين و ليس لدينا القدره على معالجة امورنا بتروي متمنيا ان لا ينعكس هذا المرض في مجتمعنا مؤثرا سلبا على مشاريعنا الاجتمعايه و ندخل في تناحر نحن في غنى عنه . و دمت اخا عزيزا له مني كل حب و احترام .
شاعر وأديب