البحرُ سيدُ الكلام

 

 

 

أبو الهلايم يسير بتعثر ، ملئه صاحبه من كل زوجين اثنين عدا ما ينتعله من جخة وما يحمله في يده من خبطٍ اعتاده ليتقي حرشفة زعانف السمك المولج في حضور سعف النخيل قرب الشاطىء وهو يطخطخ في الماء ، ينتفض حياة ، يصارع من أجل الوجود ، ابو الهلايم يقف مرتبكاً ، يصيح به (حر .. حر ) فيتأبى حراكاً كأنما رأى جنية البحر ، بضع عصيات من الخيزران كانت كافية لإنهاء عصيانه المدني .

ذات غبشة لم ينتصف بعد فيها الخيط الأبيض في مفرق الليل البهيم وهو يهيم على وقع عسعسة الليل  الغارق في صخته المعهودة ، خاطبه ذات مرة وهو يهم مسرعاً كأي روح ضاجة بالحياة :- هل صح عنك في الأثر أنك تأكل قلة  ولا تشيل قله ، " عيار ومنفلت "، ظل يجتبي ويغترف ما حلا له من بحر اللغة الثر وما وسعه من مفردات وأمثال وحكايا ، ظل يحكي بمفرده ، يثرثر ، "يهدرم" ،  ثم يحكي ثم يحكي للبحر تارة ..

لابي الهلايم ، لنفسه ، لسلوته ، لعيني حبيبته ، للطين الغارق معه وفيه  -  كل مواريث جدته وخراريفها التي تُسكن أعتى عفاريت هذا الليل الأليل الغارق قمره في غمر الشط ليغط ما حلا له ، ليغلق عينية في مهد الحكايا كطفل وديع للتو عانقت عيناه نور الجدة ، في عينيها حبل سري يغذي روحه ، حين تبدأ الجدة في رسم وسوماتها بإمعان في دمه ، في سحنة وجهه ، في سواد عينيه  ، في صناقيح ركبتيه ، في جلحته ، في كل التفاصيل الصغيرة على صفحة روحه المهووسة طفولةً لم تعرف الفِطام بعد ، ليقرأ منها المتوسمون فيما بعد ، وما أكثرهم هناك ، كلما لاح طالع الصغير ملاحة أو جلاحة ، ترى هل هناك أحلى من فنتازيا التناقضات في الجسد الواحد  .

ظل يحكي حتى نسي الطريق الطريق ، ولم يبق عن موعد ثبر المياه سوى قفلة هنيئه ، ربما لا تكفي لانتشال سمك اليواف المتعفرت حيوات من الحضرة ، ظل يردد فرِحاً بأعلى صوته : -  "بارت الحضرة من الأيادي الضبرة "  يشد إزاره كلما تعثرت خطاه وتسربل العرق من أطراف كتفيه .

شق بيديه فرية في سعف الحضرة الملآى بما لذ وطاب وهو يدندن "ويش لك بالبحر وأهواله ورزق الله على السِيف" ..

أٌقتدح آهة ليسرج وحدته ويثنيها بعزائم ماجان .

حتى لو وكرت أذني ابو الهلايم واستحضر معه كل عفاريت الاساطير - حجيج حجيجان ونتيف نتيفان وأم الخضر والليف والسنة اللي حجت البقر على اقرونها ، لم يكن الخوف ليفكر في التسلل إلى عصامية هذا الاجودي الابن البار سليل أساطير البحر كابراً عن كابر .

من يقترب من أعتابه يذوب في مهجته ، ملحاً ينماث ، رملاً يُصُير ، قارباً يسرب ، قدماً تزلف ، عيناً تحن ، يامالاً يتغنى .

يغمض عينيه ومن ثم يغمس قدميه المحناة من على أعتاب مركوب العافية برفق في برودة الماء قبل أن يبتلعه لهيب قرص شمس الكوس ليهبه البحرُ طمأنينة من رأسه حتى أخمص قدميه ارتعاشة سينين انتابته أحوجته لتطويقها برازقي الحب الفواح ومشموم حبيبته الصباحي  ندى ونوتات بجع طوحها هجير الحب ، نوتات بحرية الهوى تنوء موسيقى تنضح بكل مفاتح الغيب الغيهب .

صاح ترجيع نوتي وزجر حداة .. آه منك أيها الخطي   كم اشتاق إلى شيطنة سبيطيتك   .. في عرض هذا البحر ، جفخ بيديه على ركبتيه وصاح .. آه كم تدوخني هذه السبيطية .

لا .. لا  لن أدوخ مع شعره بعد اليوم لأنني أخاف الغرق في أعماقه  ، كم احتاج لشجاعة سبيطيته لتتملى روحي ، ولكن أنى لمثلي أن يؤتاها ممن لا يعرفون عن البحر إلا اللمم ومن لغته إلا الزبد  وعن كلامه  إلا المساحلة .. والمجاراةآه كلما زادت شيطنة السبيطية كلما زادت حلاوتها  آه كم تدوخني هذه السبيطية .. وتدوخ معها كل عزائم ماجان .. ملعون أبو السبيطية ملعون أبو البحر اللذيذ .

الماء أصبح سقياً  وبدأ يغمر أعلى رجليه ، نسي نفسه كما تنسى النساء أنفسهن في الكلام ، ألم يقولوا "سوالف النسوان تخلي البايرة  بلا عشاء"

تدارك نفسه ووضع السمك على ظهر ابو الهلايم فأصبح أشبه بـ "حشة عاقول " لملم نفسه ، مسرعاً نحو الشاطىء لينجو بنفسه ، من بعيد تفاجىء بعفاريت ماجان تسمر في مكانه وقبلها تسمر أبو الهلايم في مكانه وكأنما كتب عليه البحر من ورائكم والعفاريت من أمامكم  .