لقطة عن شاعر ( 2 )

 

 

لم يكن عبدالوهاب البياتي (1926-1999) مجرد شاعر عادي ، بل مجموعة شعراء في رجل واحد ، فقد كان شعره يحمل عدة قضايا ، فخروجه إلى العالم الأرحب قضية ، كما إن تغربه عن وطنه العراق ، و موته بعيدا عنه قضية أخرى .

من الأكيد إن شاعرنا البياتي ، هو أحد أعمدة الشعر العربي التجديدي الحديث ، الذي خرج عن نطاق الأبيات العمودية ، و لكنه بقي محافظا على التفعيلة ، و على سلامة الوزن و الإيقاع .

فهو أحد أركان المدرسة الرباعية ، التي خرجت من العراق في أواسط القرن العشرين المنصرم ، و التي تتكون منه و من بدر شاكر السياب و نازك الملائكة و بلند الحيدري ، و التي تمسكت بأصالة الشعر العربي من جهة ، و خرجت به إلى آفاق أوسع من جهة أخرى ، و من بديهيات القول إن كل واحد من هؤلاء كون له مدرسة مستقلة فيما بعد .

خاض البياتي في التدريس بما أنه خريج آداب اللغة العربية من دار المعلمين ببغداد عام 1950 ، و في تلك السنة أيضا صدر ديوانه الأول ( ملائكة و شياطين ) ، ثم عمل بالصحافة و التحرير ، كما أنه انغمس بالسياسة مبكرا ، نتيجة عمله مستشارا ثقافيا للسفارة العراقية بموسكو ، و قد دفع ثمنا باهظا لمواقفه السياسية أكثر من مرة ، فقد فصل من وظيفته مرة ، و أسقط عنه صدام حسين الجنسية ، بسبب مشاركته في مهرجان الجنادرية بالرياض عام 1995 .
و قال حينها تأثرا :

من يملك الوطن
القاتل المأجور و السجان يا سيدتي
أم رجل المطر ؟
نازك و السياب و الجواهري
أم سارق الرغيف و الدواء و الوطن ؟

عاش شاعرنا في روسيا و أسبانيا ، كما في بيروت و دمشق التي فيها توفي ، و ذلك أعطاه فرصة التعرف على ثقافات عالمية ، لاشك أنه تأثر بها ، بل و أقام صداقات مع شعراء و نقاد عالميين مثل ناظم حكمت و نيرودا .

غرق البياتي في ثنائية الحب و الموت منذ بداية أعماله الشعرية ، ( كأبارق مهشمة ، و سفر الفقر و الثورة ) ، كما إنه تحول و تعمق في ثنائية الحزن و المنفى ، كما في دواوين ( كنت أشكو إلى الحجر ، أشعار في المنفى ، الموت في الحياة ) .

و بما إن لكل شاعر سعاد خاصة به ، التي هي رمزية لها كينونتها في إحساس شاعرها ، فالبياتي كانت ملهمته (عائشة) ، فالظلم و الطغيان و المرارة التي عاشها منفيا ، زادت من حالات الإحتراق في معراج الكتابة لديه ، فجعل من عائشة ليس رمزا عاطفيا فحسب ، بل توغل بها في أبعاد النفس و التطلعات الإنسانية للثورة و التحرر .

فيقول عنها في أحد شعاره :

عائشة ليست هنا ، ليس هنا أحد
فزورق الأبد
قضى غدا و عاد بعد غد
عائشة ليس لها مكان
فهي مع الزمان ، في المكان
ضائعة كالريح في العراء
و نجمة الصباح في المساء .

قدم شاعرنا زهاء عشرون ديوانا ، و بضعة كتب نثرية و ترجمات مختلفة ، و ضع فيها تجربته الطويلة ، و خلاصة ثقافاته المتعددة ، و سبغ عليها رؤيته و فكره ، و عن ذلك يقول " لقد كان شعري و سيلتي و غايتي ... و أخلصت للشعر لا على إنه رسالة إنسانية فقط ، بل على إنه فن صعب أيضا " .

حتما إن أي شاعر يحلم بانتشار شعره ، خارج النطاق المحلي و العربي ، و بالطبع - ذلك يحتاج لأدوات و قدرات خاصة ، و توفر ظروف موضوعية تتزامن معها ، و لا نعني هنا التغريب و التقليد ، بل الإطلاع و إعادة الصياغة ، و المزج بين مفهوم الشاعر المحلي و مفهومه العالمي ، مع  المحافظة على أسس القصيدة ، و ذائقة المتلقي العربي ، و إلا أصبح هذا الشعر خاليا من العاطفة الصادقة ، و مات غريبا عن قراءه ، كما حصل لشعراء آخرين !

و البياتي كان قادرا على هذا المزج و الترابط ، فقد تعمق في الفلسفة و التصوف لقراءاته لابن عربي و جلال الدين الرومي ، كما أنه تأثر بطاغور ، فيلسوف الهند و شاعرها الكبير ، فيقول في قصيدة ( سأنصب لك خيمة في الحدائق الطاغورية  ) :

غزالة تأتي من البحر
و زهرة تطلع من صدري
و ساحر يحمل في كفه
صاعقة الميلاد و الموت
و خلف سور الليل صفصافة
يغسل عينيها ندى الفجر
تنشر في الليل مناديلها
و تغمس الأوراق في النهر .

و إذا كان البياتي برع في تنوع الموضوع بشعره ، من وحي تجربته الثورية و المعرفية العميقة ، و إيغاله في مخالفة أنظمة بلاده الإستبدادية ، فهو أيضا عاش تجاربه الذاتية العميقة في الحب ، الذي كان له مفهومه الخاص فيه " بحيث يحول الأسطورة إلى واقع ، و الواقع إلى أسطورة ، و هي جهات الشاعر الحقيقية حسب ما يرى " .

يقول في مقطوعة  ( الوحدة ) من مجموعة قصائد من فيينا :

كقطرة المطر
كنت وحيدا
آه ياحبيبتي ، كقطرة المطر
لا تحزني
سأشتري غدا لك القمر
و نجمة الضحى
و بستانا من الزهر
غدا إذا عدت من السفر
غدا إذا أورق في ضلوعي الحجر .

ليس بالهين الحديث عن شاعر عميق و كبير كالبياتي ، فتجربته الثرية حملت العالم في كفيها ، و لا يمكن لمقال متواضع كهذا ، أن يفي به حقه أبدا ، فرسائل الماجستير و الدكتوراه كتبت عنه كثيرا ، و الدراسات العربية و الأوروبية عن شعره ليست باليسيرة ، و لكنها مجرد محاولة قاصرة ، تستهدف جيل قد لا يعلم عنه الكثير .

لعلي أيضا أرشح بعضا من قصائد الشاعر الكبير ، التي تأخذ مجالا في الذائقة الأدبية و النفسية لكل متطلع منها :

- قمر شيراز
- الرحيل إلى مدن العشق
- المعبودة
- العودة من بابل
- أغنية إلى ولدي علي
- قصائد حب إلى عشتار

و إلى لقاء مع شاعر آخر ، دمتم بخير أيها الأحبة .

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 4
1
ابو هادي
[ السعودية - تاروت ]: 30 / 3 / 2012م - 2:09 ص
مقال جميل جدا ولكن حيرني العنوان لقطة شاعر أتنمى لك التوفيق أخي ابو عزيز وإلى الإمام
2
فائق المرهون
[ القطيف - أم الحمام ]: 30 / 3 / 2012م - 12:39 م
الأخ السيد أبو هادي / وفقه الله
كم أسعدني تعليقك اللطيف ، كلطافة ظلك في المدرسة ، و كم يسعدني أن أرى الدعم و المواكبة ممن أحب .
و بالنسبة للعنوان فحاولنا جعله بهذا المسمى كلقطة أي ومضة خاطفة ، لأن هذه الشخصيات شديدة الثراء و لا يمكن لمقال متواضع أن يفيها العناية .
لك كل تقديري .
3
جعفر أمان
[ أم الحمام ]: 31 / 3 / 2012م - 9:24 ص
بحق إضاءة جميلة ورائعة على شاعر متميز.. كثير منّا يرغب في الاطلاع، لكنه لسبب أو آخر يتكاسل ويوجد المبرر لعدم فعل ذلك الفعل الذي يوقد الذهن.. لكنك أيها العزيز أبا عزيز أخذتنا بسحر مقالك وقلمك، وغصت بنا في بحر هذا الشاعر الرائع.. فعشنا لحظات جميلة حالمة معه وعنه.
سلمت أناملك وفي انتظار المزيد.
4
فائق المرهون
[ القطيف - أم الحمام ]: 31 / 3 / 2012م - 12:47 م
الأستاذ جعفر / وفقه الله
لقد تفضلتم علينا كثيرا أبا رضا ، حار العقل و القلب كيف يشكركم ، نحن لا نكون إلا بكم و بمحبتكم ، ما جاء منكم اليوم دعم جديد لي أحب أن أجده دوما ، يعطيني الثقة للمستقبل .
زانت سطوري بك أيها الواعي .
معلم اللغة العربية