حقوق الإنسان خط أحمر

 

في الفكر السياسي الحديث حفظ النظام العام هو الغرض الأول من وجود السلطة السياسية. ومن أجل ذلك كان لها حق احتكار القوة المسلحة لتحقيق ذلك الغرض إذا لزم الأمر.

ولكن هذا الفكر نفسه وضع ضوابط لكبح استخدام الدولة القوة بشكل مطلق أو مفرط، لأنه يدرك من خلال تجارب الإنسان أن امتلاك القوة يغري بممارسة القمع لأتفه الأسباب، وذلك لما يبدو ظاهرا للقابضين على زمام السلاح من قدرته على الحسم السريع. فمثلا إذا حدثت احتجاجات أو اضطرابات في منطقة ما تكون الدولة أمام خيارين:

الأول:
معرفة الأسباب التي أدت لذلك ومعالجتها. وهذا يتطلب اعترافا بالآخر، وحوارا معه، ومفاوضات وربما تقديم تنازلات وبرنامج عمل يفضي إلى الحل الجذري.

الثاني:
قمع الاحتجاجات بوسائل القوة المتاحة.

يبدو الخيار الثاني أكثر إغراء، لأن الأول يستلزم استنفار طاقات العقل، بينما الثاني لا يستلزم سوى استثارة الغرائز العدوانية، وما أقرب هذه الغرائز للإغراء.

لذلك كله تم تقييد استخدام القوة المسلحة بشرط هو في غاية الأهمية والخطورة لدوره الأساسي في حفظ النظام العام. هذا الشرط هو إقرار العدالة الاجتماعية. يقول الدكتور توفيق السيف: " فالدولة مخولة باستعمال العنف لحفظ السلام الاجتماعي والأمن العام، شرط أن لا تخرج عن مقتضيات العدالة والإنصاف، وإلا اعتبرت باغية ومعتدية وفقدت شرعيتها".

لقد تنبه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى خطورة تجاوز حقوق الناس من قِبل الجيش والجنود المسلحين على المواطنين العزل تحت أية ذريعة.

ففي رسالة منه معبرة إلى المسؤولين الذين يمر الجيش ببلادهم وهو في طريقه لخوض معركة ما، يضع النقاط على الحروف ليمنع تعدي الجيش على الناس دون وجه حق. يقول:

"مِنْ عَبد اللهِ عَليٍ أمِيرِ الْمُؤمِنِينَ إلَى مَنْ مَرَّ بِهِ الْجَيْشُ مِن جُباةِ الْخَرَاجِ وَعُمَّالِ الْبِلادِ:أمَّا بَعْدُ، فَإنّي قَدْ سَيَّرتُ جُنُوداً هِيَ مَارَّةٌ بِكُم إِن شَـاءَ اللهُ، وَقَدْ أَوْصَيْتُهُم بِمَا يَجِبُ للهِ عَلَيْهِم مِن كَفِّ الأَذَى وَصَرفِ الشَّذَى، وَأَنَا أَبْرَأُ إِلَيْكُم وَإلَى ذِمَّتِكُم مِن مَعَرَّةِ الْجَيْشِ، إلاَّ مِن جَوعَةِ الْمُضْطَرِّ، لاَ يَجِدُ عَنْهَا مَذْهَباً إلَى شِبَعِهِ. فَنَكَّلُوا مَنْ تَنَاوَلَ مِنْهُم شَيْئاً ظُلْماً عَنْ ظُلْمِهِم، وَكّفُّوا أَيْدِيَ سُفَهَائِكُمْ عَنْ مُضَارَّتِهِم، وَالتَّعَرُّضِ لَهُم فِيْمَا اسْتَثْنَيْنَاهُ مِنْهُم. وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِ الْجَيْشِ، فَارْفَعُوا إِلَيَّ مَظَالِمَكُمْ، وَمَا عَرَاكُم مِمَّا يَغْلِبُكُمْ مِنْ أَمْرِهِم وَمَا لاَ تُطِيقُونَ دَفْعَهُ إِلاَّ بِاللهِ وَبِيَ، فَأَنَا أُغَيَّرُهُ بِـمَعُـونَةِ اللهِ إِنْ شَاءَ الله"

في هذه الرسالة العظيمة الكثير من الوقفات نختار منها:

  1. استهلال الرسالة بتذكير نفسه عليه السلام بموقعيته الملازمة له، وهي كونه عبدا لله قبل وبعد وأثناء ممارسته للسلطة. وبالتالي فإن جميع تصرفاته تكون وفق مراد المعبود جل وعلا.
  2. إصدار الأوامر ينبغي أن يكون ممن له الحق في ذلك، فهو هنا (أمير المؤمنين).
  3. إعطاء التعليمات الصريحة للجيش بحسن السيرة والعدل وعدم التعدي على المواطنين الآمنين، مسلمين وغير مسلمين. هذا ما يبينه في قوله: وَقَدْ أَوْصَيْتُهُم بِمَا يَجِبُ للهِ عَلَيْهِم مِن كَفِّ الأَذَى وَصَرفِ الشَّذَى. ( والشذى هو الضرب والشر). وكذلك في قوله متبرئا من أي أذى يسببه الجيش: وَأَنَا أَبْرَأُ إِلَيْكُم وَإلَى ذِمَّتِكُم مِن مَعَرَّةِ الْجَيْشِ. فالذمة تشمل المواطنين الذميين والمعاهدين.
  4. الحاكم هو المسؤول الأول عن الخروقات والتعديات التي تحدث من قبل الجيش والجنود على الآخرين، ومن هنا فإنه يحتاج إلى إبراء ذمته من تصرفاتهم الرعناء بتزويدهم بالتعليمات الصريحة الواضحة المشددة بالحفاظ على حقوق الآخرين، ثم بوضع الأنظمة الجزائية الرادعة لكل من ينتهك الحقوق ومعاقبته. والاستثناء الوحيد هو المتعلق بحالة الاضطرار: إلاَّ مِن جَوعَةِ الْمُضْطَرِّ، لاَ يَجِدُ عَنْهَا مَذْهَباً إلَى شِبَعِهِ.
  5. توجيه المسؤولين لمراقبة سلوكيات أفراد الجيش والتنكيل بكل من يخرج منهم على النظام. فهم مواطنون كغيرهم لا ينبغي لهم أبدا أن يتصوروا أنهم فوق النظام، أو أن تُعطى لهم حصانة من المساءلة والعقوبة.
  6. على الآخرين أيضا عدم التعرض لأفراد الجيش بأذى دون مسوغ.
  7. تحمل الإمام عليه السلام للمسؤولية، واتباعه سياسة الباب المفتوح واستعداده لرفع الظلم وإحداث التغيير المطلوب: وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِ الْجَيْشِ، فَارْفَعُوا إِلَيَّ مَظَالِمَكُمْ، وَمَا عَرَاكُم مِمَّا يَغْلِبُكُمْ مِنْ أَمْرِهِم وَمَا لاَ تُطِيقُونَ دَفْعَهُ إِلاَّ بِاللهِ وَبِيَ، فَأَنَا أُغَيَّرُهُ بِـمَعُـونَةِ اللهِ إِنْ شَاءَ الله.

إن اعتزازنا بالسلف الصالح ينبغي أن يكون مقرونا بالتطبيق العملي لآثارهم المجيدة وأفعالهم الحميدة، وإلا فسيكون مجرد لافتة تسويقية في بازار المزايدات. ولعل أعظم الآثار التي يجب الالتزام بها في هذا العصر هي تلك المتعلقة بحقوق الإنسان.

وهذا الكتاب / الرسالة يريد أن يقول لنا بكل وضوح: حقوق الإنسان خط أحمر. فهل نعي هذه الرسالة؟!

شاعر وأديب