الكلمة الطيبة: بين منطق القوة وقوة المنطق "4"

السيد إبراهيم الزاكي

هناك من لا تجدي معهم الكلمات العنيفة والقاسية، ولا يمكن أن يصلح شأنهم منطق التسخيف أو التسفيه والتوبيخ، بل إن ذلك يزيدهم عناداً ومكابرة وإصراراً على ما هم عليه، فتكون النتيجة سلبية ومضرة، بدلاً من أن تكون إيجابية ونافعة. فليس حلاً للخلافات أو المشكلات، التنابذ والتنابز بالألقاب والسباب، أو النيل من الآخر بأسلوب يتسم بالعنف والبعد عن الطريق الموصل إلى الحقيقة، بل من الواجب السعي إلى حل المشكلات بهدوء وأدب واحترام، من خلال عملية حوارية تحليلية مقنعة، تتضمن مفردات تحمل معاني التكريم والتعظيم، بعيداً عن منطق التسخيف أو التسفيه.

والإصرار على انتهاج اللغة العنيفة، والأساليب الجارحة في التعبير والتخاطب والحوار، ستكون له بدون أدنى شك عواقبه الوخيمة، وآثاره السلبية البالغة الضرر على الفرد والمجتمع، خصوصاً عندما يتطور الأمر ويتصاعد إلى حدود عالية من الحدية والتوتر، المصحوب بارتفاع في نبرة الأصوات وعلوها، لتكون نتيجتها في الأخير الإخلال بالسلم الأهلي والسلام الاجتماعي، والمصلحة العامة للمجتمع.

إن الذين يستعملون ويتوسلون رفع وعلو أصواتهم، وتصعيد نبرتها العالية، من أجل إسكات غيرهم، وإجبارهم وإخضاعهم بالقوة على الاقتناع بما يريدون، هم في الحقيقة مخطئون وواهمون، لأنهم بذلك يدللون على عجزهم وافتقادهم للحجج العقلية السديدة الراجحة والقوية في إقناع الآخرين بوجهة نظرهم، أو في كسب ودهم وقلوبهم. فالذي لا يملك قوة المنطق في عرض أفكاره بشكل عقلاني ومنطقي، يتوسل رفع الصوت عالياً، لإرهاب خصومه ومنافسيه بمنطق القوة والتهديد، واستعمال الكلمات الحادة والجارحة والمهينة، "فالذي لا يملك المنطق السليم في التفكير الواعي، فإنه يصبح أسيراً لغرائزه الذاتية، ويجد نفسه أمام قوة ضغط عاطفية تجيش في داخله ولا يستطيع السيطرة عليها بسبب ضعف مقدرة التحكم العقلي لديه، ونتيجة لهذا الضغط الحسي، فإن الطريقة الجسدية هي السبيل الوحيد لإفراغ هذا الضغط. ويتخذ تفريغ هذه الشحنات السلبية عدة أشكال كالصراخ وشد الشعر والضرب باليد أو الركل بالقدم إلى الشتم واللعن وربما الدخول في العراك والمشادة، وقد يصل الأمر إلى القتل أحياناً".[1] 
 
إن هؤلاء الذين هكذا شاكلتهم في انتهاج لغة العنف ومنطق القوة في التعبير والتخاطب والحوار، يفتقدون المنطق السليم والرأي السديد والتفكير الواعي، ولا يجيدون إلا الصراخ والشتم والعويل سبيلاً للتغطية على قصورهم وعجزهم، من أجل سد النقص في قوة منطقهم، لأنهم عاجزون عن امتلاك المنطق القوي. فهم أُسراء لغرائزهم الذاتية وانفعالاتهم العاطفية، ويركنون إلى تأجيج المشاعر وإثارة التوتر لضمان ولاء مريديهم ومحازبيهم وأنصارهم، مهما كان الثمن، أو فداحة الأضرار والتداعيات التي يمكن أن تنجم من هكذا منطق عنيف ومتوتر، لينتهي الحوار مع هؤلاء في الغالب إلى عراك ومشادات، تنزلق فيها الأمور إلى المجهول، والى ما لا يحمد عقباه.

أما اولائك الذين يملكون القدرة على عرض أفكارهم بشكل عقلاني استناداً على قوة المنطق، فليسوا هم بحاجة إلى رفع الصوت عالياً، وإرهاب خصومهم ومنافسيهم، لأنهم يملكون المنطق السليم والرأي السديد والتفكير الواعي في التحدث والحديث والتعبير عن آرائهم وقناعاتهم بالطرق السليمة والسلمية والحضارية، دون أن تكون عندهم أي رغبة في إفحام أو إرغام الآخرين وإكراههم على قبول بآرائهم، أو التفكير بالانتقام ورد الصاع صاعين، أو الفتك بهم وتسديد الضربة القاضية لهم، من أجل أن تبقى كلمتهم، رغماً عن خصومه، هي المسموعة بدون مناقشة أو منافسة، بل على العكس والنقيض من ذلك، فهم يقولون آرائهم وما يعتقدون به، ويتركون للآخرين حرية القبول والاقتناع به، كما يعطونهم الفرصة كي يقولوا ما يشاءون، والحكم في النهاية هو لقوة المنطق، لا لمنطق القوة.

إن استخدام منطق القوة في الإقناع لهو علامة إخفاق ودليل فشل، لأن الإقناع هو نتاج حالة عقلانية منطقية، وليس سلوكاً فوضوياً غرائزيا جسدياً. فالذي يقتنع بفكرة ورأي عن طريق الحوار الهادئ والمنطق السليم وقوة الحجة والدليل القاطع، تترسخ لديه الفكرة، وتتحول إلى قناعة ثابتة ودائمة مع مرور الوقت والزمن، لأن العقول تصغي لكل جديد يطرق سمعها، لتأخذ منه الأحسن والأفضل، ولتختار خلاصة الأفكار بعد جلسة حوارية تجريدية، يفسح فيها للعقل المجال أن يشق طريقه نحو القناعة بعيداً عما هو مسبق وموروث، ليكون الاستنتاج في الأخير قائم على أساس القناعة المعززة بالمنطق والدليل.

أما الذي يُجبر على رأي وفكرة وقناعة بفعل وضغط منطق القوة، وبوسائل عنفيه، وبأساليب الردع والكبت والإكراه، فإن ثبات هذه القناعة ورسوخها وتجدرها سيكون مشكوك فيه، وسيظل أثرها ومفعولها مؤقت، لا تلبث أن تنتفي وتزول آثارها مع أول هبة ريح، وانتهاء مفعول القوة الضاغطة، وزوال المعوقات المفروضة والكابتة، لتعود الأمور بعدها إلى سيرتها الأولى، وكأن شيئاً لم يكن أو تغير.

إن ما يحدث في كثير من الأحيان، وفي مثل هكذا مواقف، عندما يتعرض فيها احدنا إلى ضغوط الإكراه لقبول قناعات وآراء الآخرين، أننا نتظاهر بالصمت أو بالقبول السطحي والظاهري، فعندما "يحدثك أحدهم فتحدق في عينه أو في وجهه متظاهراً بأنك تتابع كل كلمة يقولها باهتمام شديد، ولكن ما تفعله حقاً ليس سوى سماع صوته، وربما مراقبة تعبيرات وجهه دون أن تدقق فيما يقول، إما لأنك مشغول بما هو أهم، وعلى جوارحك يستحوذ أمر آخر، وإما ليقينك بأن ما يقوله غير ذي أهمية". [2] 
 
هؤلاء الذين يمارسون سلطة الكلام وعنف الكلمة، ويفرضون عليك أن تستمع إليهم، لا يعطونك الفرصة للحديث والكلام ومحاججتهم ومبادلتهم الرأي، لكي يظلوا مسيطرين على جو الحديث. هؤلاء مخطئون عندما يعتقدون أنهم بذلك يُوصلون فكرتهم ووجهة نظرهم بهكذا طريقة. لكن عندما تسود أجواء الحديث والكلام مشاعر الود والألفة والمحبة، ستجد فيمن حولك من لهم آذان تصغي وقلوب تعي وعقول تستمع، "فهناك نمط من الناس أُعطيت لهم ملكة أو فن الإصغاء للآخرين، مع هؤلاء تشعر بنوع من السكينة والآلفة والهدوء، ربما لقدرتهم على التقاط ما تفكر فيه أو تريد قوله حتى لو خانتك لحظتها الكلمات المناسبة للتعبير عما يجول في خاطرك وأنت تعرض فكرة أو تشرحها. هؤلاء الناس بالمناسبة أقرب للتأمل، والشخص المتأمل هو عادة مرهف الحس، وقادر على التقاط ما هو جوهري حتى في الفكرة التي تبدو في ظاهرها عادية. أما الذين يتزاحمون على سلطة الكلام فهم على النقيض أميل إلى سرعة الأحكام، والقطعية في تقييم الأمور، لأن المسافة بين التفكير والكلام عندهم مسافة قصيرة، ويبدو أنه كلما قصرت المسافة كلما ازدادت احتمالات الخطأ". [3] 
 
من المؤكد أن الأسلوب الحواري المحبب والرصين وفق قانون العليّة ونظام الأسباب والمسببات، يحدث هزة في جدار العقول الخامدة والقلوب المقفلة، مما يدفع الكثيرين إلى إعادة النظر في قناعاتهم، وتقييم كل ما علق في أذهانهم من أفكار متراكمة، أو استنتاجات لا تنسجم مع ما تقتضيه قواعد النظر والبرهان. لذلك كم نحن بحاجة إلى أن نتلطف في الكلام ونصغي إلى بعضنا البعض بحميمية، ونشجع جو التعاطف والتفاهم والتفهم في حواراتنا، وأن نخلق البيئة التي تشجع على الصراحة المطلقة والرأي الصريح. وكل ذلك لا يمكن أن يتم في بيئة يسودها التوتر والتشنج والتعصب، أو في جو يسوده ارتفاع نبرة الصوت واستعمال الكلمات القاسية والاتهامات المتبادلة، لأن ذلك يشعر الآخر بوجود المعوقات المانعة التي تقف أمام حريته، والكابتة على حرية كلمته، فيحتفظ برأيه و يضمر قناعته، ويختبئ خلف الحواجز خوفا من قمع الآخرين له.

انه لمن الضروري تهيئة وخلق البيئة المناسبة التي ينطلق في جوها الحوار الهادئ والهادف، الذي لا يؤدي إلى خلق العقد تجاه الآخر، وبتالي إلى تكريس حالات الخوف والوجل والنفور والقطيعة معه، "فالحوار يمثل الوسيلة التي بها نفهم الآخر وأن يفهمنا الآخرون، وأن نقنع الآخرين أو يقنعوننا. وعندما يصبح الحوار عنفاً من خلال التعنيف في لغة الحوار، حيث لا يكون العنف أسلوباً واقعياً للمسألة ، فإن ذلك يعني انك تخلق عقدة في نفس الإنسان الآخر، وإذا هو مارس العنف ضدك كرد فعل لعنفك، فإنه يخلق عقدة في داخل فكرك ضده". [4] 
 
عندما تسود لغة الشتيمة ومفردات اللعن وكلمات السباب في الخطابات والحوارات المتبادلة، فإن ذلك لا يشير إلى قصور في النواحي الأدبية والسلوكية فقط، وإنما هو تعبير يؤكد على ضيق الصدور، وعدم القدرة على تقبل الآخر والمختلف، مما يؤدي مع الزمن إلى التراكم في المشكلات والأزمات التي تمنع حالة الاستقرار والأمان، وفي ذات الوقت فإن سيادة هذه اللغة الهابطة يعبر عن القصور والعجز عن مواكبة تطورات العصر وثقافته، وهو ما ينعكس بالتالي سلبا على رخاء وتقدم المجتمعات وأجيالها في الحاضر والمستقبل.

وللحديث صلة....................

[1]  - أسلوب التعبير عن الاختلاف في الرأي / مها فهد الحجيلان – جريدة الوطن السعودية.
[2]  - احتلال (الأذن) / حسن مدن – جريدة الأيام البحرينية.
[3]  - احتلال (الأذن) / حسن مدن – جريدة الأيام البحرينية.
[4]  - من كلام للسيد محمد حسين فضل الله.