الوعي وحدوده

الوعي من أكثر الظواهر غموضاً في الكون، فهو المشكلة الأصعب في العلم والفلسفة، نتكلم هنا عن تيار الإحساس الذاتي الذي يشعر به كل فرد بصورة ذاتية منفصله ومتفرده كتجربة خاصة، الذي هو أقرب شيءٍ لكل إنسان ويمثل الذات التي من خلالها نطلع ونتعرف على العالم، وللعلماء محاولات لتفسيره بالفرضيات الكثيره التي لازالت تحاول فهم انبثاق الوعي المجرد من شيءٍ مادي كالدماغ.

وعلى الرغم من الصلة الوثيقة والأثر الواضح الذي يتركه الدماغ على الوعي إلا أن العلاقه مبهمة وغير مفهومة، فمن قائلٍ بأن الوعي وهمٌ ناتج عن انتقال الإشارات الكهربائية بين ملايين الخلايا العصبية في الدماغ، ومن يقول بأن الوعي من طبيعة المادة ويتناسب طردياً مع تعقيد تراكيبها، فكل شيء له وعي يتناسب معه، ومن يقول بأنه أثرٌ لتراكم المعلومات، فكلما ازدادت المعلومات المتعامل معها زادت نسبة الوعي.

بعيداً عن كل هذه الفرضيات التي تبحث في أصل الوعي وسبب وجوده، لننظر إلى الأثر الذي يتركه إدراك بعض الحقائق على الوعي الإنساني ومحدوديته، ولنبدأ بالإدراك الذي هو الإحاطه بشيء ما عن طريق الحواس، أي إنَّ إدراك الشيء هو العلم به، أما الوعي فهو المرحلة التاليه الأعمق بعد جمع المدركات من الإحساس بنتائجها وفهم لما يترتب عليها، أي معايشة المدرك ذهنياً، عادةً ما يتعلق الوعي بالمجردات والصور الذهنيه، كتصور بنية للكون بناءً على المعلومات المتراكمه، أو تصور لما وراء الموت من معتقدات «كما فعل دانتي بتصويره للجحيم في الكوميديا الإلهية»، فالوعي جامعٌ للمدركات وبانٍ للتَّصورات من أنقاض المدركات المتراكمة، هذا هو الوعي الباني للتصورات والأطر المعرفيه من المحيط.

يبقى الوعي أسيراً للمدركات من عدة وجوه، أي أن هناك حدوداً للوعي أولها هو القصور المعرفي، فحتى لو افترضنا وجود إنسان يحيط بجميع ما توصلت إليه الإنسانيه من معرفة، فإن هذه المعرفه تشكل حدود وعيه وتصوراته قبالة أضعاف مضاعة مما لم يدخل دائرة المعرفة الإنسانية بعد، إضافةً إلى هذا القصور الكمي هناك القصور النوعي المبني على صحة المدركات من عدمها أو صحة تركيبها وربطها ببعضها، فقد يكون هناك عدة نظريات لتفسير ظاهرة واحده

كمثال على ذلك في علم الفيزياء ظاهرة الأثر الذي تتركه الأرض على الأجسام بالإنجذاب نحوها، فمن أرسطو ونظرية الحركة نحو الوسط مروراً بنيوتن والجاذبية الأرضية إلى انحناء الزمكان عند آينشتاين، ينطبق هذا التفسير المتعدد والفهم المختلف والمتطور على جميع الظواهر الماديه والفكرية، فإدراك الظاهرة لا يحتم فهمها وإن فهمت فهذا الفهم ليس نهائي وقابل للتطور والتبدل، والوعي الناظم للمدركات محكوم بهذه التغيرات وتطورها.

عند فهم حدود الوعي على مستوى الوعي الإنساني ككل، فإن فهم محدوديته على المستوى الفردي أجلى وأوضح لدخول المؤثرات الأخرى كالزمان والمكان واللغة والبيئة الثقافه والتجارب الشخصية والإنحيازات العاطفيه وغيرها.

عند فهم كل هذه العوامل المؤثر على الوعي والإحتمالات الكثيرة لوقوعه في الوهم وصعوبة الإنعتاق من التحيزات والوعي بالحدود الحتمية وما لا يجب إغفاله من اتساع مساحة الجهل في داخلنا التي يبدو أنها دائمة بل وفي اتساع مطرد، يجعلنا في حالة بحث دائم وحركة مستمرة طلباً لملئ الفراغ الدائم بالمعرفة.

تجلي هذه الحدود المفروضة على الوعي لأي عاقل تفرض عليه التواضع والبعد عن الإنغلاق والتعصب والقطعيات وتجعله أكثر تفهماً وتقبلاً للإختلاف وترك مسافة كافية لإعادة النظر والمراجعة.