حوار عقيم وآخر مُنتج

ربما نستخلص من مجمل ما كتبناه حول موضوع الحوار والاختلاف إلى أن هناك حوارات محكومة بالانفعال والتشنج أكثر مما هي محكومة بالتأمل والروية، حيث يطغى الصوت العالي، والتفكير الانفعالي، الذي يخلق الحواجز بين المتحاورين، ويدمر العلاقة فيما بينهم. وفي الوقت ذاته هناك حوارات محكومة بالتأمل والهدوء والروية، ويسودها التفكير الهادئ العميق، الذي يتجه صوب جوهر الأفكار، وينفذ إلى عمقها، ويعزز العلاقة بين المتحاورين ويوثقها.

الحوار الانفعالي يبتعد عن كل ما له علاقة بالموضوع محل البحث، ويتجه صوب الأشخاص والتهجم عليهم، بعيداً عن مناقشة الأفكار المطروحة ومضمونها، حيث لا يتورع أحد عن شخصنه النقاش، واقتراف الموبقات من أجل إسكات خصمه وتحطيمه وتسفيهه والنيل منه، والتفتيش في سيرته وحياته الشخصية ومثالبها، والدخول إلى عالمه الشخصي والحميم، والبحث عن أخطائه وهفواته وزلاته من أجل فضحه وتشويه سمعته، وتوظيف كل ذلك في تأثيمه وأبلسته وتركيعه وكسر إرادته.

في الحوارات الانفعالية والمتشنجة تعلو فيه الأصوات من غير مبرر، وتُقحم فيه مفردات ملغومة، وتُستعمل فيه كلمات جارحة تُوتّر الأجواء، وتستفز النفس، يتحول معها الحوار من حوار أفكار إلى حوار سجالي شخصاني، يتبادل فيه المتحاورون الشتائم والكلمات النابية، ويستميت فيه كل طرف من أجل قهر خصمه بلغو الكلام، والصوت العالي، وكيل الاتهامات له من غير دليل، بعيداً عن لغة العقل والمنطق، وأصول الاختلاف.

وبالتالي تنقلب مثل هكذا حوارات رأساً على عقب، وتخرج عن هدفها المنشود. فبدلاً من أن تكون حوارات هادفة وذات معنى، تتحول إلى حوارات يسودها التعصب للرأي، وتجاهل الرأي الآخر. وقد تصل فيها الأمور إلى حد التشابك بالأيدي. وربما إلى أبعد من ذلك أيضاً. والنتيجة في المحصلة المزيد من الاحتقان والخصومات والتأزم على كل المستويات.

أما في الحوارات المحكومة بالتأمل والهدوء والروية، فينخفض فيها الصوت، وتعلو فيه نسبة التفكير والتأمل، ويسودها الهدوء والروية، بعيداً عن الانفعالات والتوتر وردود الفعل، فهي تستهدف المعرفة، وتجلية الأفكار وتلاقحها وتفعيلها، وتبيان الحقيقة، وإثراء موضوعات النقاش، والارتقاء بالعملية التحاورية إلى مراتب إنسانية مثالية تؤتي ثمارها المرجوة كل حين، وتحقق مقاصدها وغاياتها النبيلة على كل صعيد.

ففي مثل هكذا حوارات تأملية تُستفز فيه العقول، وتثار دفائنها بالأسئلة الغير مفكر فيها، وتحريضها على البحث والنظر، حيث يتم مناقشة الأفكار بالعقل والمنطق، ويتم محاورتها ومساجلتها ونقدها ونقضها بأساليب منطقية، بعيداً عن الادعاء بأنها اليقين المطلق، أو الزعم بصوابها النهائي، وهو الأمر الذي يزيد العقول نوراً، فتزداد علماً ووعياً. وبالتالي يجعل الحوار مثمراً وهادفاً وبناءً، والحصيلة ثراءً معرفياً.

أما في الحوار الانفعالي فتُستفز فيه النفوس، وكلٌ يهين الآخر ويبخس حقه، حيث تصبح الأجواء متوترة ومتشنجة. فتزداد أجواء النقاش تأزماً واحتقاناً وتعصباً، لا ينتج عنها ما يثري العقل وينميه، بل تذبل فيه الأفكار، وتصاب العقول بالعقم والعجز. والمحصلة في الأخير تصبح خواءً معرفياً.