التعليم والتربية الأخلاقية

إذا كان للأسرة دور مهم في تنشئة الطفل ونموه وبناء مهاراته، كما أشرنا إلى ذلك في المقالة السابقة، إلا أنها ليست المحطة الوحيدة في أداء هذا الدور المركزي، إذ أن للتعليم في كل مراحله أيضاً دوراً مهماً في بناء شخصية الطفل ونمو مهاراته، من خلال العمل على ترسيخ المبادئ الأساسية والأخلاقية، وتكوين العادات السلوكية الحسنة، وتعليم الناشئة وتثقيفهم وتوجيههم وتعويدهم على الالتزام بالقيم الإنسانية النبيلة.

فإذا كانت مقدمات التعليم صحيحة وسليمة، فإن مخرجاته ستكون كذلك، وهو الأمر الذي يعني بأنه إذا تعلم الطفل أو تلقى المهارات والمعارف والأخلاق بطريقة صحيحة ومناسبة، فإنها سوف تتجلى في شخصيته بشكل حسن وسليم، وسوف تنعكس على سلوكه وأفعاله حين يكبُر ويبدأ في دخول معترك الحياة العامة، ويختلط بالناس ويحتك بهم في المستقبل.

إن البيئة والمحيط الذي يعيش فيهما الطفل لهما تأثير عميق وفعّال في حياته وتكوّن شخصيّته. فالإنسان منذ نعومة أظفاره يتأثّر وينفعل بما يجري حوله من ممارسات، فهو يكتسب أخلاقه وممارساته وطباعة وأسلوب تفكيره من ذلك المحيط، أو تلك البيئة. فإذا كان للوالدين والأسرة دوراً كبيراً في تحديد شخصية الطفل وصقلها وبلورتها وتحديد معالمها، فإن للمعلّم أيضاً دوراً مباشراً، وأثراً كبيراً في تكوين شخصية الطفل وسلوكه وكيفيّة تفكيره.

وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار "البيئة التعليمية هي المحطة الثانية التي تلعب دوراً هاماً في تكوين شخصية الطفل وتزويده بالعادات السلوكية الحسنة. حيث يتعلم الطفل من المدرسة مهارات الاتصال والانفتاح على الآخرين، ويتدرب في ممارسة مبدأ توقير الكبير والعطف على من هو أصغر منه سناً. ولذلك ثمة مسؤولية كبرى على المؤسسات التعليمية إزاء تغيير عادات الأطفال السيئة وتقويم سلوكياتهم المنحرفة، ليس من خلال العصا والأدوات العقابية الفجة الأخرى، لكن بالحوار والاقناع ودعم القيم الإنسانية التي تشجع على الحوار والتماسك الاجتماعي واحترام الاختلاف، وتمكين الطلاب من الأطفال والناشئة للقيام بأدوار إيجابيّة رياديّة في هذا المجال.

ولكي تترسخ قيم الحوار في أذهان الطلاب ينبغي للمعلم أيضاً أن يزود الطلاب بفن الحديث والاقناع، وقواعد الحوار، وثقافة السلام، وأن يثري حصصه بساعات للنقاش والمناظرات العلمية والفكرية، كما عليه الابتعاد عن وسائل غير حضارية لا تؤدّي إلى تغيير عادات الطفل السيئة، بل تدفعه إلى تعلم مهارات الكذب والعنف للدفاع عن نفسه، وتساهم بشكل كبير في تثبيت سلوكياته الشاذة. ومن هنا ينبغي على المعلم أيضاً أن يحصن نفسه بمهارات الاتصالات وعلوم التنمية البشرية كي يكون قادراً على العطاء والبذل، وألا ينطبق عليه المثل العربي الذي يقول: فاقد الشيء لا يعطيه".

وعليه فإن دور البيئة المدرسية أساسي ومهم في تنمية شخصية الطفل، وتعليمه الفضائل الجميلة والأخلاق الحميدة، إذ أن للمعلمين والمشرفين على التعليم دوراً كبيراً في التأثير على الأطفال سلوكياً وأخلاقياً، وتكوين مفاهيمهم وتنميتها، حيث لا ينبغي للمعلم أن يكون مجرد ناقل للمعرفة فقط، وإنما عليه أن يكون مربي أخلاقي ومصلح اجتماعي. فالطلاب من الأطفال والناشئة هم بمثابة الأمانة في أعناق معلميهم، ومن واجبهم توجيههم نحو السلوك السوي، كونهم في موقع القدوات، والنموذج الذي يحتذون به.

وغني عن القول بأن الإنسان في مرحلة الطفولة تكون شخصيته في طور التكوين، ويكون مفتقداً للقدوة التي يحتذي بها، إلا أنه بفطرته يبحث عمن يصلح ليكون مثله الأعلى. غير أن تمثُّل المعلم القيم التربوية والأخلاقية، وانعكاسها بشكل إيجابي في سلوكه، سيجعله يصبح مقبولاً ومحبوباً بين طلابه، وبالتالي سوف يكتسب التلاميذ منه صفاته، ويتبعون سلوكه، ويحتذون بأخلاقه، ويكون لهم بمثابة القدوة والمثل الأعلى.

وبهذا المعنى لا ينبغي للمعلم الالتزام بواجبات المهنة التعليمية فقط، وإنما من واجبه الالتزام بالقيم التربوية والأخلاقية الرفيعة، وتمثُّلها قولاً وفعلاً، وتجسيدها عملياً في كلامه وسلوكه مع الطلبة، والعمل على تعزيز الألفاظ الإيجابية في نفوس التلاميذ، وتنمية حصيلتهم من الكلمات الحسنة، وتعويدهم على التلفظ بالألفاظ الجميلة، والعبارات اللطيفة، إلى أن تثبت في نفوسهم وتصير لديهم عادة. كما أن من واجبه تصحيح ما يتلفظ به الطلاب من كلمات وعبارات غير سوية، أو ما يأتون به من سلوكيات وأفعال غير حسنة، والعمل عل تقويمها بالتي هي أحسن، بعيداً عن أي أساليب قاسية وعنفيه.

ولئن كان من مسؤولية الجهات المناط بها تربية وتعليم الأطفال أن تُنشِّئهم على الكلمات الطيبة والمهذبة وترسيخها في أذهانهم، وعدم تعويدهم على سماع الكلمات والألفاظ السلبية النابية والغير لائقة، فإنه أيضاً من واجبهم الابتعاد عن السلوكيات السلبية، والتلفظ بالألفاظ النابية، وعدم مناداة الطلاب بالألفاظٍ البذيئة، والكف عن مناداتهم بأسماء سلبية ومهينة، وعدم التفوة بأي كلمة تصف الطالب بشكل سلبي، أو بعبارات غير أخلاقية قد تؤثر في شخصيته، وتنعكس سلباً في سلوكه وممارساته.

خلاصة القول إنه بات من الضروري اليوم وأكثر من أي وقت مضى التأكيد على أهمية وأولوية التربية الأخلاقية والقيمية في العملية التعليمية، لما لذلك من أثر كبير في إعادة بناء الإنسان في الزمن المعاصر. فالرقي بمجتمعاتنا ونقلها إلى مصاف الدول المتحضرة يتطلب إنشاء إنسان متكامل البناء، وإعداده روحياً ونفسياً وسلوكياً وأخلاقياً ومعرفياً. ولن يكون ذلك ممكناً إلا من خلال بناء منظومة أخلاقية تعزز وترسخ القيم النبيلة في النفوس، وتحصن الأجيال من شتّى الأمراض النفسيّة، والعادات السيئة القبيحة، والسلوكيات المنحرفة والضالة، والأفكار المتطرفة والهدامة.